تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٣ - الصفحة ١٤٤
* (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) * وهوالشهوات النفسانية الحاجبة للنفس القدسية عن رياض الملكوت * (فتقبلها ربها بقبول حسن) * وهو اختصاصه إياها بإفاضة أنواره عليها * (وأنبتها نباتا حسنا) * ورقاها فيما تكمل به نشأتها ترقيا حسنا غير مشوب بالعوائق والعلائق * (وكفلها زكريا) * الاستعداد * (كلما دخل عليها زكريا) * وتوجه نحوها في محراب تعبدها المبني لها في بيت مقدس القلب * (وجد عندها رزقا) * تتغذى به الأرواح في عالم الملكوت * (قال أنى لك هذا) * الرزق العظيم قالت: هو مفاض من عند الله منزه عن الحمل بيد الأفكار * (إن الله) * الجامع لصفات الجمال والجلال * (يرزق من يشاء) * ويفيض عليهم من علمه حسب قابليتهم * (بغير حساب) * فسبحانه من إله وجواد كريم وهاب.
* (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعآء) *.
* (هنالك دعا زكريا ربه) * قصة مستقلة سيقت في أثناء قصة مريم لكمال الارتباط مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له، و (هنا) ظرف مكان، و - اللام - للبعد، و - الكاف - للخطاب أي في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب، وهي ظرف ملازم للظرفية وقد تجر بمن وإلى؛ وجوز أن يراد بها الزمان مجازا فإن (هنا) وثم وحيث كثيرا ما تستعار له وهي متعلقة - بدعا - وتقديم الظرف للإيذان بأنه أقبل على الدعاء من غير تأخير، وقال الزجاج: إن (هنا) هنا مستعارة للجهة والحال - أي من تلك الحال دعا زكريا - كما تقول: من ههنا قلت كذا، ومن هنالك قلت كذا - أي من ذلك الوجه وتلك الجهة.
أخرج ابن بشر وابن عساكر عن الحسن قال: لما وجد زكريا عند مريم ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء يأتيها به جبريل قال لها: أنى لك هذا في غير حينه. قالت: هو رزق من عند الله يأتيني به الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فطمع زكريا في الولد فقال: إن الذي أتى مريم بهذه الفاكهة في غير حينها لقادر على أن يصلح لي زوجتي ويهب لي منها ولدا فعند ذلك دعا ربه وذلك لثلاث ليال بقين من المحرم قام زكريا فاغتسل ثم ابتهل في الدعاء إلى الله تعالى، وقيل: أطمعه في الولد فدعا مع أنه كان شيخا فانيا وكانت امرأته عاقرا لما أن الحال نبهته على جواز ولادة العاقر من الشيخ من وجوه. الأول: ما أشار إليه الأثر من حيث إن الولد بمنزلة الثمر والعقر بمنزلة غير أوانه، والثاني: أنه لما رأى تقبل أنثى مكان الذكر تنبه لأنه يجوز أن يقوم الشيخ مقام الشاب والعاقر مقام الناتج، والثالث: أنه لما رأى تقبل الطفل مقام الكبير للتحرير تنبه لذلك. والرابع: أنه لما رأى تكلم مريم في غير أوانه تنبه لجواز أن تلد امرأته في غير أوانه، والخامس: أنه لما سمع من مريم * (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) * (آل عمران: 37) تنبه لجواز أن تلد من غير استعداد؛ ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الخدش، وعلى العلات ليس ما رأى فقط علة موجبة للإقبال على الدعاء بل كان جزءا من العلة التامة التي من جملتها كبر سنه عليه السلام وضعف قواه وخوف مواليه حسبما فصل في سورة مريم * (قال) * شرح للدعاء وبيان لكيفيته * (رب هب لي من لدنك) * الجاران متعلقان بما قبلهما وجاز لاختلاف المعنى، و * (من) * لابتداء الغاية مجازا أي أعطني من عندك * (ذرية طيبة) * أي مباركة كما قال السدي، وقيل: صالحة تقية نقية العمل، ويجوز أن يتعلق الجار الأخير بمحذوف وقع حالا من ذرية، وجاء الطلب بلفظ الهبة لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلة شيء وهو يناسب ما لا دخل فيه للوالد لكبر سنه ولا للوالدة لكونها عاقرة لا تلد فكأنه قال: أعطني ذرية من غير وسط معتاد، والذرية في المشهور النسل تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى. والمراد ههنا ولد واحد؛ قال الفراء: وأنث - الطيبة - لتأنيث لفظ الذرية والتأنيث والتذكير تارة يجيئان على اللفظ
(١٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 139 140 141 142 143 144 145 146 147 148 149 ... » »»