الرحمة فكأنه قيل لهم: اتبعوني بالأعمال الصالحة يخصكم الله تعالى برحمته، وتعلقت بالخواص من حيث الفضل فكأنه قيل لهم: اتبعوني بمكارم الأخلاق يخصكم بتجلي صفات الجمال، وتعلقت بخواص الخواص من حيث الجذبة فكأنه قيل لهم: اتبعوني ببذل الوجود يخصكم بجذبه لكم إلى نفسه، وهناك يرتفع البون من البين، ويظهر الصبح لذي عينين والقطرة من هذه المحبة تغني عن الغدير: وفي سكرة منها ولو عمر ساعة * ترى الدهر عبدا طائعا وله الحكم * (ويغفر لكم ذنوبكم) * أي معاصيكم التي سلفت منكم على خلاف المتابعة ولا يعاقبكم عليها أو يغفر لكم ذنوبكم بستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته أو يغفر لكم ذنوب وجودكم ويثيبكم مكانه وجودا لا يفنى كما قال: " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به " الحديث * (والله غفور) * يكفر خطاياكم ويمحو ذنوب صفاتكم ووجودكم * (رحيم) * (آل عمران: 31) يهب لكم عوض ذاك حسنات وصفات ووجودا حقانية خيرا من ذلك * (قل أطيعوا الله والرسول) * فإن المريد يلزمه متابعة المراد * (فإن تولوا) * أي فإن أعرضوا فهم كفار منكرون محجوبون * (فإن الله لا يحب الكافرين) * (آل عمران: 32) لقصور استعدادهم عن ظهور جماله فيهم * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * (آل عمران: 33) الاصطفاء أعم من المحبة والخلة فيشمل الأنبياء كلهم وتتفاضل فيه مراتبهم كما يشير إليه قوله تعالى: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * (البقرة: 253) فأخص المراتب هو المحبة، وإليه يشير قوله تعالى: * (ورفع بعضهم درجات) * (البقرة: 253) ثم الخلة، وفي لفظها إشارة إلى ذلك من طريق مخارج الحروف وأعمها الاصطفاء، فاصطفى آدم بتعليم الصفات وجمع اليدين وإسجاد الأكوان له، ونوحا الذي هو الأب الثاني بتلك الأبوة وبما كان له مع قومه، واصطفى آل إبراهيم وهم الأنبياء من ذريته بظهور أنوار تجليه الخاص على آفاق وجودهم، وآل عمران بجعلهم آية للعالمين ذرية بعضها من بعض في الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان: صورية ومعنوية، وكل نبي تبع نبيا في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه، ويمكن أن يقال: آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها، ونوح هو هي في مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات، وآله القوى الروحانية، وعمران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن، وآله التابعون له في ذلك البيت المقتدون به، وكل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب * (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) * (آل عمران: 35) عن رق النفس مخلصا في عبادتك عن الميل إلى السوي * (فتقبلها ربها بقبول حسن) * قال الواسطي: محفوظ عن إدراك الخلق * (وأنبتها نباتا حسانا) * حيث سقاها من مياه القدرة وأثمرها شجرة النبوة * (وكفلها زكريا) * لطهارة سره، وشبيه الشيء منجذب إليه * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) * هو ما علمت، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية.
وأخرج ابن أبي حاتم من بعض الطرق عن مجاهد أنه قال: رزقا أي علما، وقد يقال على نحو الأول ليتم تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس * (إذ قالت امرأة عمران) * وهي النفس في أول مراتب طاعتها لعمران العقل * (إني نذرت لك ما في بطني) * وهو غلام القلب * (محررا) * ليس في رق شيء من المخلوقات * (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى) * وهي نفس أيضا إلا أنها أكمل منها في المرتبة، والجنس يلد الجنس * (والله أعلم بما وضعت) * لعلمه أنه سيظهر من هذه الأنثى العجب العجاب، وغيره سبحانه تخفى عليه الأسرار * (وإني سميتها مريم) * وهي العابدة