بالأداء لما تقرر من أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب - ليس بشيء - لأن الأمر بالاتمام يقتضي سابقية الشروع الأمر بالاتمام مقيدا بالشروع، وادعاء أن المعنى ائتوا بهما حال كونهما تامين مستجمعي الشرائط والأركان، وهذا يدل على وجوبهما لأن الأمر ظاهر فيه، ويؤيده قراءة (وأقيموا الحج والعمرة) ليس بسديد. أما أولا: فلأنه خلاف الظاهر وبتقدير قبوله في مقام الاستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجها إلى القيد - أعني تامين - لا إلى أصل الإتيان كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " بيعوا سواء بسواء " وأما ثانيا: فلأن الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازي المشترك بين الواجب والمندوب - أعني طلب الفعل - والقرينة على ذلك الأحاديث الدالة على استحباب العمرة، فقد أخرج الشافعي في " الأم " وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " الحج جهاد والعمرة تطوع " وأخرج الترمذي وصححه - عن جابر - أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: " لا، وأن تعتمروا خير لكم " ويؤيد ذلك أن ابن مسعود صاحب هذه القراءة قال فيما أخرجه عند ابن أبي شيبة وعبد بن حميد: " الحج فريضة والعمرة تطوع " وأخرج ابن أبي داود في " المصاحف " - عنه أيضا - أنه كان يقرأ ذلك ثم يقول: والله لولا التحرج أني لم أسمع فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لقلت: إن العمرة واجبة مثل الحج، وهذا يدل على أنه رضي الله تعالى عنه لم يجعل الأمر بالنسبة إليها للوجوب لأنه لم يسمع شيئا فيه - ولعله سمع ما يخالفه - ولهذا جزم في الرواية الأولى عنه بفرضية الحج واستحباب العمرة، وكأنه لذلك حمل الأمر في قراءته على القدر المشترك الذي قلناه لا غير بناء على امتناع استعمال المشترك في معنييه؛ وعدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز والميل إلى عدم تقدير فعل موافق للمذكور يراد به الندب، نعم لا يعد ما ذكر صارفا إلا إذا ثبت كونه قبل الآية، أما إذا ثبت كونه بعدها فلا لأنه يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد لما أن الأمر ظاهر في الوجوب، وليس مجملا في معانيه على الصحيح حتى يحمل الخبر على تأخير البيان - على ما وهم - والقول - بأن أحاديث الندب سابقة ولا تصرف الأمر عن ظاهره بل يكون ذلك ناسخا لها - سهو ظاهر لأن الأحاديث نص في الاستحباب، والقرآن ظاهر في الوجوب فكيف يكون الظاهر ناسخا للنص، والحال أن النص مقدم على الظاهر عن التعارض.
ثم إن هذا الذي ذكرناه - وإن لم يكن مبطلا لأصل التأييد إلا أنه يضعفه جدا، وادعى بعضهم أن الأحاديث الدالة على استحباب العمرة معارضة بما يدل على وجوبها منها، فقد أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت " وأخرج أبو داود، والنسائي أن رجلا قال لعمر: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي أهللت بهما جميعا فقال: هديت لسنة نبيك، فإن هذا يدل على أن الإهلال بهما طريقة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الاستدلال بما حكاه الصحابي من سنته عليه الصلاة والسلام يكون استدلالا بالحديث الفعلي الذي رواه الصحابي، والقول بأن - أهللت بهما - جملة مفسرة لقوله وجدت فيجوز أن يكون الوجوب بسبب الإهلال بهما فلا يدل الحديث على الوجوب ابتداءا ليس بشيء لأن الجملة مستأنفة كأنه قيل: فما فعلت؟ فقال: أهللت فيدل على أن الوجدان سبب الاهلال دون العكس لأن مقصود السائل السؤال عن صحة إهلاله بهما فكيف يقول وجدتهما مكتوبين لأني أهللت بهما فإنه إنما يصح على تقدير علمه بصحة إهلاله بهما، وجواب عمر رضي الله تعالى عنه بمعزل عن وجوب الاتمام لأن كون الشروع