تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢ - الصفحة ٦٦
غاية كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، ومجرد قضاء الشهوة لا ينبغي أن يكون إلا للبهائم، وجعل بعضهم هذا الطلب كناية عن النهي عن العزل، أو عن إتيان المحاش، وبعض فسر من أول مرة ما كتب بما سن وشرع من صب الماء في محله، أي اطلبوا ذلك دون العزل والإتيان المذكورين - والمشهور حرمتهما - أما الأول: فالمذكور في الكتب فيه أنه لا يعزل الرجل عن الحرة بغير رضاها، وعن الأمة المنكوحة بغير رضاها أو رضا سيدها على الاختلاف بين الإمام وصاحبيه، ولا بأس بالعزل عن أمته بغير رضاها إذ لا حق لها. وأما الثاني: فسيأتي بسط الكلام فيه على أتم وجه إن شاء الله تعالى. وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه تفسير ذلك بليلة القدر. وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا وعن قتادة أن المراد: ابتغوا الرخصة التي كتب الله تعالى لكم فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وعليه تكون الجملة كالتأكيد لما قبلها، وعن عطاء أنه سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف تقرأ هذه الآية * (ابتغوا) * أو (ابتعوا)؟ فقال: أيهما شئت، وعليك بالقراءة الأولى.
* (وكلوا واشربوا) * الليل كله * (حتى يتبين) * أي يظهر * (لكم الخيط الأبيض) * وهو أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره، وحمله على الفجر الكاذب المستطيل الممتد كذنب السرحان وهم * (من الخيط الأسود) * وهو ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة آخر الليل * (من الفجر) * بيان لأول الخيطين - ومنه يتبين الثاني - وخصه بالبيان لأنه المقصود وقيل: بيان لهما بناءا على أن الفجر عبارة عن مجموعهما لقول الطائي: وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه فهو على وزان قولك: حتى يتبين العالم من الجاهل من القوم، وبهذا البيان خرج الخيطان عن الاستعارة إلى التشبيه لأن شرطها عندهم تناسيه بالكلية، وادعاء أن المشبه هو المشبه به لولا القرينة والبيان ينادي على أن المراد - مثل هذا الخيط وهذا الخيط - إذ هما لا يحتاجان إليه، وجوز أن تكون * (من) * تبعيضية لأن ما يبدو جزء من الفجر كما أنه فجر بناء على أنه اسم للقدر المشترك بين الكل والجزاء، و * (من) * الأولى قيل: لابتداء للغاية، وفيه أن الفعل المتعدي بها يكون ممتدا أو أصلا للشيء الممتد، وعلامتها أن يحسن في مقابلتها (إلى) أو ما يفيد مفادها - وما هنا ليس كذلك - فالظاهر أنها متعلقة ب * (يتبين) * بتضمين معنى التميز، والمعنى حتى يتضح لكم الفجر متميزا عن غبش الليل؛ فالغاية إباحة ما تقدم حتى يتبين أحدهما من الآخر ويميز بينهما، ومن هذا وجه عدم الاكتفاء ب * (حتى يتبين لكم) * الفجر، أو (يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر) لأن تبين الفجر له مراتب كثيرة، فيصير الحكم مجملا محتاجا إلى البيان، وما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: أنزلت * (وكلوا واشربوا) * الخ ولم ينزل * (من الفجر) * فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعد * (من الفجر) * فعلموا إنما يعني الليل والنهار، فليس فيه نص على أن الآية قبل محتاجة إلى البيان بحيث لا يفهم منها المقصود إلا به وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز لجواز أن يكون الخيطان مشتهرين في المراد منهما، إلا أنه صرح بالبيان لما التبس على بعضهم، ويؤيد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم وصف من لم يفهم المقصود من الآية قبل التصريح - بالبلادة - ولو كان الأمر موقوفا على البيان لاستوى فيه الذكي البليد، فقد أخرج سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وجماعة عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال: لما أنزلت هذه الآية
(٦٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 ... » »»