تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢ - الصفحة ٣٢
ازديادا وانتقاصا أو ظلمة ونورا إنما هو بمدخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على كيفيتين مخصوصتين، ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار السابح كل منهما في لجة بحر فلكه الدوار المسخر بالجريان فيه ذهابا وإيابا بما ينفع الناس في أمر معاشهم وانتظام أحوالهم، وهو الفلك التي تجري على كبد البحر بذلك، ويختلف جريانها شرقا وغربا على حسب تسليك المقادير الإلهية لها في هاتيك المسالك، فالآية حينئذ على حد قوله تعالى: * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون، * وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) * (يس: 37 - 41) إلا أن الفرق بين الآيتين أن الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحا بين حديث الفلك وشأن الليل والنهار، وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما، ثم عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي، وله مناسبة لذكر البحر بل ولذكر الفلك التي تجري فيه بما ينفع الناس وهو إنزال الماء من السماء ونشر ما كان دفينا في الأرض بالإحياء، وفي ذلك النفع التام والفضل العام. ومن الأولى: ابتدائية والثانية: بيانية، وجوز أن تكون تبعيضية وأن تكون بدلا من الأولى، والمراد من السماء جهة العلو، وقد تقدم تحقيق ذلك.
* (فأحيا به الأرض) * بتهييج قواها النامية، وإظهار ما أودع فيها من أنواع النبات والأزهار والأشجار * (بعد موتها) * وعدم ظهور ذلك فيها لاستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها * (وبث فيها من كل دآبة) * عطف إما على * (أنزل) * والجامع كون كل منهما آية مستقلة لوحدانيته تعالى وهو الغرض المسوق له الكلام مع الاشتراك في الفاعل، و (أحيا) من تتمة الأول كان الاستدلال بالإنزال المسبب عنه الإحياء فلا يكون الفصل به مانعا للعطف، إما على (أحياء) فيدخل تحت فاء السببية، وسببية إنزال الماء للبث باعتبار أن الماء سبب حياة المواشي والدواب - والبث - فرع الحياة، ولا يحتاج إلى تقدير الضمير للربط لإغناء فاء السببية عنه في المشهور، وقيل: يحتاج إلى تقدير به - أي بالماء - ليشعر بارتباطه بأنزل استقلالا كأحيا وفاء السببية لا تكفي في ذلك إذ يجوز أن يكون السبب مجموعهما، وحديث أن المجرور إنما يحذف إن جر الموصول بمثله أكثري لا كلي، ومن بيانية على التقدير الأول على الصحيح، والمراد * (من كل دابة) * كل نوع من الدواب، ومعنى - بثها - تكثيرها بالتوالد والتولد، فالاستدلال بتكثير كل نوع مما يدب على الأرض وعدم انحصاره في البعض، وقيل: تبعيضية لأن الله تعالى لم يبث إلا بعض الأفراد بالنسبة إلى ما في قدرته، على أنه أثبت الزمخشري دواب في السماء أيضا في سورة * (حم * عسق) * (الشورى: 1، 2)، وفيه أن بث كل نوع مما يدب على الأرض لا ينافي كون بعض أفراده مقدرا ولا وجوده في السماء، على أن مدلول التبعيضية كون شيء جزءا من مدخولها لا فردا منه، وزائدة على التقدير الثاني لعدم تقدم المبين، وعدم صحة التبعيض، وهي زيادة في الإثبات لم يجوزها سوى الأخش.
* (وتصريف الري‍اح) * أي تقليب الله تعالى لها جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا، حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقيما ولواقح، وتارة بالرحمة ومرة بالعذاب، وقرأ حمزة والكسائي (الريح) على الإفراد وأريد به الجنس، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - الرياح - للرحمة والريح للعذاب، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا هبت ريح " قال: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا " ولعله قصد بالأول والثاني قوله تعالى: * (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) * (الروم: 46) وقوله تعالى: * (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) * (الذاريات: 41)
(٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 ... » »»