تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢ - الصفحة ٤٣
ثم اعلم أنه ليس المراد من الآية قصر الحرمة على ما ذكر مطلقا كما هو الظاهر حتى يرد منع الحصر بحرمة أشياء لم تذكر بل مقيد بما اعتقدوه حلالا بقرينة أنهم كانوا يستحلون ما ذكر فكأنه قيل: إنما حرم عليكم ما ذكر من جهة ما استحللتموه لأشياء أخر، والمقصود من قصر الحرمة على ما ذكر رد اعتقادهم حليته بأبلغ وجه وآكده فيكون قصر قلب إلا أن الجزء الثاني ليس لرد اعتقاد الحرمة إذ لم يعتقدوا حرمة شيء مما استحلوه بل تأكيد الجزء الأول، والخطاب للناس باعتبار دخول المشركين فيهم فيكون مفاد الآية الزجر عن تحليل المحرمات كما أن * (يا أيها الناس كلوا) * (البقرة: 168) زجر عن تحريم الحلالات؛ أو المراد قصر حرمة ما ذكر على حال الاختيار، كأنه قيل: إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها، والأنسب حينئذ أن يكون الخطاب للمؤمنين ليكون محط الفائدة هو القيد حيث كانوا معتقدين لحرمة هذه الأمور، وفائدة الحكم الترخيص بعد التضييق عليهم بطلب الحلال الطيب، أو تشريفهم بالامتنان بهذا الترخيص بعد الامتنان عليهم بإباحة المستلذات، واختار بعضهم أن المراد من الحصر رد المشركين في تحريمهم ما أحله الله تعالى - من البحيرة والوصيلة والحام - وأمثالها لأكلهم من هذه المحرمات المذكورة في الآية، فكأنهم قالوا: تلك حرمت علينا ولكن هذه أحلت لنا، فقيل: ما حرمت إلا هذه - فهو إذا إضافي - وذهب آخرون إلى أنه قصر إفراد بالنسبة إلى ما حرمه المؤمنون مع المذكورات من المستلذات، وفيه أن المؤمنين لم يعتقدوا حرمة المستلذات بل حرموها على أنفسهم لما سمعوا من شدائد المحاسبة والسؤال عن النعم، قاله بعض المحققين فليتدبر.
* (إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكت‍ابويشترون به ثمنا قليلا أول‍ائك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القي‍امة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) * * (إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكت‍اب) * المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكام المحللات والمحرمات، والآية نزلت - كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه - في علماء اليهود كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث من غيرهم كتموا وغيروا صفته صلى الله عليه وسلم حتى لا يتبع فتزول رياستهم وتنقطع هداياهم * (ويشترون به) * أي يأخذون بدله في نفس الأمر، والضمير - للكتاب - أو لما أنزل أو للكتمان * (ثمنا قليلا) * أي عوضا خقيرا.
* (أول‍ئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار) * إما في الحال - كما هو أصل المضارع - لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار وهو - الرشا - لكونها عقوبة لها فيكون في الآية استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار بالهيئة المنتزعة من - أكلهم النار - من حيث إنه يترتب على - أكل - كل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر، فاستعمل لفظ المشبه به في المشبه، وإما في المآل، أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار فالنار في الاحتمالين مستعمل في معناه الحقيقي، وقيل: إنها مجاز عن - الرشا - إذا أريد الحال، والعلاقة السببية والمسببية وحقيقة إذا أريد المآل، ولا يخفى أن الأول هو الأليق بمقام الوعيد، والجار والمجرور حال مقدرة، أي: ما يأكلون شيئا حاصلا في بطونهم إلا النار إذ الحصول في - البطن - ليس مقارنا للأكل، وبهذا التقدير يندفع ضعف تقديم الحال على الاستثناء، ولا يحتاج إلى القول بأنه متعلق بيأكلون والمراد في طريق بطونهم كما اختاره أبو البقاء، والتقييد - بالبطون - لإفادة - الملء - لا للتأكيد - كما قيل به - والطرفية بلفظة (في) وإن لم تقتض استيعاب المظروف الظرف، لكنه شاع استعمال ظرفية - البطن - في الاستيعاب كما شاع ظرفية بعضه في عدمه كقوله:
(٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 ... » »»