وفي الفرقان أقوال: الأول: إنه هو التوراة أيضا، والعطف من قبيل عطف الصفات للإشارة إلى استقلال كل منها، فإن التوراة لها صفتان يقالان بالتشكيك، كونها كتابا جامعا لما لم يجمعه منزل سوى القرآن، وكونها (فرقانا) أي حجة تفرق بين الحق والباطل - قاله الزجاج - ويؤيد هذا قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياءا وذكرا) * (الأنبياء: 48) الثاني: أنه الشرع الفارق بين الحلال والحرام، فالعطف مثله في: * (تنزل الملائكة والروح) * (القدر: 4) قاله ابن بحر. الثالث: أنه المعجزات الفارقة بين الحق والباطل - من العصا واليد وغيرهما - قاله مجاهد.
الرابع: إنه النصر الذي فرق بين العدو والولي، وكان آية لموسى عليه السلام، ومنه قيل ليوم بدر: يوم الفرقان، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: إنه القرآن، ومعنى إتيانه لموسى عليه السلام نزول ذكره له حتى آمن به، حكاه ابن الأنباري - وهو بعيد - وأبعد منه، ما حكي عن الفراء وقطرب - أنه القرآن - والكلام على حذف مفعول - أي ومحمدا الفرقان - وناسب ذكر الاهتداء إثر ذكر إتيان موسى، الكتاب والفرقان لأنهما يترتب عليهما ذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد.
* (وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذالكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) * * (وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) * نعمة أخروية في حق المقتولين من بني إسرائيل حيث نالوا درجة الشهداء، كما أن العفو نعمة دنيوية في حق الباقين، وإنما فصل بينهما بقوله: وإذ آتينا) * (البقرة: 53) الخ؛ لأن المقصود تعداد النعم - فلو اتصلا لصارا نعمة واحدة - وقيل: هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم - وليس بشيء - واللام في * (لقومه) * للتبليغ، وفائدة ذكره التنبيه على أن خطاب موسى لقومه كان مشافهة لا بتوسط من يتلقى منه - كالخطابات المذكورة سابقا لبني إسرائيل - والقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرىء - وقياسه أن لا يجمع - وشذ جمعه على - أقاويم - والمشهور اختصاصه بالرجال لقوله تعالى: * (لا يسخر قوم من قوم) * مع قوله: * (ولا نساء من نساء) * (الحجرات: 11) وقال زهير: فما أدري وسوف أخال أدري * أ (قوم) آل حصن أم (نساء) وقيل: لا اختصاص له بهم، بل يطلق على النساء أيضا لقوله تعالى: * (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه) * (نوح: 1) والأول أصوب، واندراج النساء على سبيل الاستتباع، والتغليب والمجاز خير من الاشتراك، وسمي الرجال قوما لأنهم يقومون بما لا يقوم به النساء، وفي إقبال موسى عليهم بالنداء، ونداؤه لهم بيا قوم إيذان بالتحنن عليهم وأنه منهم وهم منه، وهز لهم لقبولهم الأمر بالتوبة بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم والباء في * (باتخاذكم) * سببية وفي - الاتخاذ - هنا الاحتمالان السابقان هناك.
* (فتوبوا إلى بارئكم) * الفاء للسببية - لأن الظلم سبب للتوبة - وقد عطفت ما بعدها على * (إنكم ظلمتم) * والتوافق في الخبرية والإنشائية إنما يشترط في العطف - بالواو - وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف، والتحقيق أنها لهما معا، والبارىء هو الذي خلق الخلق بريا - من التفاوت - وعدم تناسب الأعضاء وتلائم الأجزاء بأن تكون إحدى اليدين في غاية الصغر والرقة، والأخرى بخلافه؛ ومتميزا بعضه عن بعض بالخواص والإشكال والحسن والقبح - فهو أخص من الخالق - وأصل التركيب لخلوص الشيء وانفصاله عن غيره إما على سبيل التفصي - كبرء المريض - أو الإنشاء - كبرأ الله تعالى آدم - أي خلقه ابتداء متميزا عن لوث الطين، وفي ذكره في هذا المقام تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله تعالى ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم،