تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ٥١
والكسر لقلته إذ لا يوجد في الفعل ولا في غير المنصرف ولا في الحروف إلا نادرا يناسب العدم. وأما الجر فلموافقة حركة الباء أثرها ولا نقض بواو العطف اللازمة للحرفية ولا بكاف التشبيه اللازمة للجر لأن المجموع سبب الامتياز ولم يوجد في كل لكن يبقى النقض واو القسم وتائه ويجاب بأن عملها بالنيابة عن الباء التي هي الأصل في حروفه فكأن الجر ليس أثرا لهما وهذه علل نحوية مستخرجة بعد الوقوع لإبداء مناسبة فلا تتحمل مناقشة لضعفها كما قيل:
عهد الذي أهوى وميثاقه * أضعف من حجة نحوي فلا نسهر جفن الفكر فيما لها وعليها، وقال بعضهم من باب الاشارة: كسرت الباء في البسملة تعليما للتوصل إلى الله تعالى والتعلق بأسمائه بكسر الجناب والخضوع وذل العبودية فلا يتوصل إلى نوع من أنواع المعرفة إلا بنوع من أنواع الذل والكسر كما أشار إلى ذلك سيدي عمر بن الفارض قدس الله تعالى سره الفائض بقوله:
ولو كنت لي من نقطة الباء خفضة * رفعت إلى ما لم تنله بحيلة بحيث نرى أن لا ترى ما عددته * وأن الذي أعددته غير عدة فإن الخفض يقابل الرفع فمن خفضه النظر إلى ذل العبودية، رفعه القدر إلى مشاهدة عز الربوبية، ولا ينال هذا الرفع بحيلة؛ بل هو بمحض الموهبة الإلهية الجليلة، ومن تنزل ليرتفع فتنزله معلول، وسعيه غير مقبول انتهى.
وهو أمر مخصوص بباء البسملة لا يمكن أن يجرى في باء الجر مطلقا كما لا يخف، وعندي في سر ذلك أن الباء هي المرتبة الثانية بالنسبة إلى الألف البسيطة المجردة المتقدمة على سائر المراتب فهي إشارة إلى الوجود الحق، والباء إما إشارة إلى صفاته التي أظهرتها نقطة الكون ولذلك لما قيل للعارف الشبلي أنت الشبلي؟ فقال أنا النقطة تحت الباء، وقال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره:
الباء للعارف الشبلي معتبر * وفي نقيطتها للقلب مدكر سر العبودية العلياء مازجها * لذاك ناب مناب الحق فاعتبروا أليس يحذف من بسم حقيقته * لأنه بدل منه فذا وزر والصفات إما جمالية أو جلالية، وللأولى السبق كما يشير إليه حديث " سبقت رحمتي غضبي " وباء الجر إشارة إليها لأنها الواسطة في الإضافة والإفاضة فناسبها الكسر وخفض الجناح ليتم الأمر ويظهر السر، وفي الابتداء بهاهنا تعجيل للبشارة ورمز إلى أن المدار هو الرحمة كما قال صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل حتى أنت يا رسول الله قال حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " وقد تدرج سبحانه وتعالى بإظهارها فرمز بالباء وأشار بالله وصرح أتم تصريح بالرحمن الرحيم، وأما إشارة إلى الحقيقة المحمدية والتعين الأول المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: " أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر " وبواسطته حصلت الإفاضة كما يشير إليه " لولاك ما خلقت الأفلاك " ولكون الغالب عليه الصلاة والسلام صفة الرحمة لا سيما على مؤمني الأمة كما يشير إليه قوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (الأنبياء: 107) وقوله تعالى: * (بالمؤمنين رؤوف رحيم) * (التوبة: 128) ناسب ظهور الكسر فيما يشير إلى مرتبته وفي الابتداء به هنا رمز إلى صفة من أنزل عليه الكتاب والداعي إلى الله. وفي ذلك مع بيان صفة المدعو إليه بأنه الرحمن الرحيم تشويق تام وترغيب عظيم وقد تدرج أيضا جل شأنه في وصفه صلى الله عليه وسلم بذلك في القرآن إلى أن قال سبحانه: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * (القلم: 4) واكتفى بالرمز لعدم ظهور الآثار بعد، وأول الغيث قطر ثم ينهمل، وما من سورة إلا افتتحها
(٥١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 ... » »»