بأن أصل المبالغة مما لا يمكن هنا لأنها عبارة عن أن تثبت للشيء أكثر مما له وذلك فيما يقبل الزيادة والنقص، وصفاته تعالى منزهة عن ذلك لاستلزامه التغير المستلزم للحدوث، وأجيب بأن المراد الأكثرية في التعلقات والمتعلقات لا في الصفة نفسها وهذا إذا كانت صفة ذات وإن كانت صفة فعل فلا إشكال على ما ذهب إليه الأشاعرة من القول بحدوثها. وأما على ما ذهب إليه ساداتنا الماتريدية القائلون بقدوم صفة التكوين فيجاب بما أجيب به عن الأول.
وأما سابعا فلأ قولهم فعلى الأول قيل يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن إن أرادوا به أن أبلغية الرحمن ههنا باعتبار كثرة أفراد الرحمة في الدنيا لوجودها في المؤمن والكافر فلا يستقيم عليه، ورحيم الآخرة إذ النعم الأخروية غير متناهية وإن خصت المؤمن، وإن أرادوا أنها باعتبار كثرة أفراد المرحومين فلا يخفى أن كثرة أفرادهم إنما تؤثر في الأبلغية باعتبار اقتضائها كثرة أفراد الرحمة في الدنيا أيضا ومعلوم أن أفراد الرحمة في الآخرة أكثر منها بكثير بل لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا فهذا الوجه مخدوش على الحالين على أن في اختصاص رحمة الآخرة بالمؤمنين مقالا إذ قد ورد في الصحيح شفاعته صلى الله عليه وسلم لعامة الناس من هول الموقف: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * (الإسرار: 79) وروي تخفيف العذاب عن بعض الأشقياء في الآخرة وكون الكفار في الأول تبعا غير مقصودين كيف وهم بعد الموقف يلاقون ما هو أشد منه فليس ذلك رحمة في حقهم والتخفيف في الثاني على تقدير تحققه نزول من مرتبة من مراتب الغضب إلى مرتبة دونها فليس رحمة من كل الوجوه ليس بشيء أما أولا فلأن القصد تبعا وأصالة لا مدخل له وحبذا الولد من أين جاء، وأما ثانيا فلأن ملاقاتهم بعد لما هو أشد فلا يكون ذلك رحمة في حقهم يستدعي أن لا رحمة من الله تعالى لكافر في الدنيا كما قيل به لقوله تعالى: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) * (آل عمران: 178) وقوله تعالى: (ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها) فيبطل حينئذ دعوى شمول الرحمة المؤمن والكافر في الدنيا إذ لا فرق بين ما يكون للكافر في الدنيا مما يتراءى أنه رحمة وما يكون له في الآخرة فوراء كل عذاب شديد، وأما ثالثا فلأن كون التخفيف ليس برحمة من كل الوجوه لا يضر وكل أهل النار يتمنى التخفيف: * (وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب) * (غافر: 49) وحنانيك بعض الشر أهون من بعض، وأما ثامنا فلأن قولهم وعلى الثاني قيل يا رحمن الدنيا والآخرة الخ فيه بعض شيء وهو أنه يصح أن يكون بالاعتبار الأول لأن نعم الدنيا والآخرة تزيد على نعم الآخرة نعم يجاب عنه بأنه يلزم حينئذ أن يكون ذكر رحيم الدنيا لغوا ولا يلزم ذلك على اعتبار الكيفية إذ المراد يا موليا لجسام النعم في الدارين ولما دونها في الدنيا. وأيضا مقصود القائل التوسل بكلا الاسمين المشتقين من الرحمة في مقام طلبها مشيرا إلى عموم الأول وخصوص الثاني ويحصل في ضمنه الاهتمام برحمته الدنيوية الواصلة إليه الباعثة لمزيد شكره إلا أنه يرد عليه كسابقه أن الأثر لا يعرف والمعروف المرفوع: " رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما " وكفاية كونه من كلام السلف ليس بشيء كما لا يخفى، وأما تاسعا فلأن السؤال عن تقديم الرحمن معترض بمقبول ومردود، وذكر ابن هشام أنه غير متجه لأن هذا خارج عن كلام العرب إذ لم يستعمل صفة ولامجردا من أل فهو بدل لا نعت والرحيم نعت له لا نعت لاسم الله سبحانه إذ لا يتقدم البدل على النعت ومما يوضح لك أن الرحمن غير صفة مجيئه كثيرا غير تابع نحو: * (الرحمن على العرش استوى) * (طه: 5) * (الرحمن * علم القرآن) * (الرحمن: 1، 2) * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * (الإسرار: 110) * (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) * (الفرقان: 60) وقال ابن خروف هو صفة غالبة ولم يقع تابعا إلا لله تعالى