تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ١٩٥
أمر ممكن، ودائرة التأويل واسعة والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم، والذي يدركه ذوقي - ولا أزكى نفسي - أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى، والبحث في هذه الآية مشهور، وقد جرى فيه بين العضد والجار بردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الانتصار لكل. وقد وفقت للوقوف على كثير منها والحمد لله، ونقلت نبذة منها في " الأجوبة العراقية " ثم أولى الوجوه هنا على الإطلاق جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل و * (من) * بيانية، أما أولا: فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي كقوله تعالى: * (فأتوا بسورة مثله) * لأن المماثلة فيها صفة للمأتى به، وأما ثانيا: فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه وذكره إنما وقع تبعا ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح بمماثلة السورة وهو عمدة التحدي وإن فهم، وأما ثالثا: فلأن أمر الجم الغفير - لأن يأتوا من مثل ما أتى به واحد من جنسهم - أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحدا يأتي ما أتى به رجل آخر، وأما رابعا: فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس ولم يكتب لا أنه في نفسه معجز مع أن الواقع هذا، وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى الله عليه وسلم باشتماله على معنى مستبدع مستجد وبأنه الكلام مسوق للمنزل عليه إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان، فالمقصود إثبات النبوة والحجة ذريعة فلا يلزم من الافتتاح بذكر - ما نزلنا - أن يكون الكلام مسوقا له وبأن التحدي على ذلك أبلغ، لأن المعنى اجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب ولم يدارس العلوم؟! وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة بل هي أقوى في الإفحام إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما اشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية وإن كان بينهما بون إذ الغريق يتشبث بالحشيش، وأما إذا تحدى بسورة من أمي كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال، هذا ولا يخفى أنه صرح ممرد ونحاس مموه، وظاهر السياق يؤيد ما قلنا ويلائمه ظاهرا كما سنبينه بمنه تعالى، قوله تعالى: * (وادعوا شهدآءكم من دون الله إن كنتم ص‍ادقين) *.
الدعاء النداء والاستعانة، ولعل الثاني مجاز أو كناية مبنية على النداء لأن الشخص إنما ينادى ليستعان به، ومنه * (أغير الله تدعون) * (الأنعام: 40) والشهداء جمع شهيد أو شاهد، والشهيد كما قال الراغب: كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد، ولذا سموا غيره مخلفا وجاء بمعنى الحاضر، والقائم بالشهادة والناصر والإمام أيضا. و * (دون) * ظرف مكان لا ينصرف ويستعمل (بمن) كثيرا وبالباء قليلا، وخصه في " البحر " بمن (دونها) ورفعه في قوله: ألم تريا أني حميت حقيقتي * وباشرت حد الموت والموت دونها نادر لا يقاس عليه ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو كعند إلا أنها تنبىء عن دنو كثير وانحطاط يسير، ومنه دونك اسم فعل لا تدوين الكتب خلافا للبيضاوي كما قيل لأنه من الديوان الدفتر ومحله، وهي فارسي معرب من قول كسرى إذ رأى سرعة الكتاب في كتابتهم وحسابهم ديوانه. وقد يقال لا بعد فيما ذكره البيضاوي وديوان مما اشتركت فيه اللغتان، وقد استعمل في انحطاط محسوس لا في ظرف كدون زيد في القامة ثم استعير للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيها بالمراتب الحسية كدون عمرو شرفا ولشيوع ذلك اتسع في هذا المستعار فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ولو من دون تفاوت وانحطاط، وهو بهذا المعنى قريب من غير فكأنه أداة استثناء، ومن الشائع دون بمعنى خسيس فيخرج عن الظرفية ويعرف بأل ويقطع عن الإضافة كما في قوله: إذا ما علا المرء راح العلا * ويقنع (بالدون) من كان دونا ومافي " القاموس " من أنه يقال رجل من دون، ولا يقال دون مخالف للدراية والرواية، وليس عندي
(١٩٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 189 191 192 193 194 195 196 197 198 199 200 ... » »»