لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكا لطريق الكناية مع ما في لفظ (من) التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمنا حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي، وعلى الثاني يتعين أن تكون (من) للإبتداء مثلها في * (إنه من سليمان) * (النمل: 30) ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول، وإما أن تكون صلة * (فأتوا) *.
والشائع أنه يتعين حينئذ عود الضمنير للعبد لأن (من) لا تكون بيانية إذ لا مبهم، ولكونه مستقرا أبدا لا تتعلق بالأمر لغوا ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعا عليه حقيقة كما في - أخذت من الدراهم - ولا معنى لإتيان البعض بل المقصد الاتيان بالبعض، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود (من) ولأنه يلزم أن يكون * (بسورة) * ضائعا فتعين أن تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل، وجعل المتكلم مبدأ عرفا للاتيان بالكلام منه معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للاتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة، وأيضا المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي أو المادي، أو الغائي، أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئا من ذلك، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفادا من لفظ السورة، ومساق الكلام بمعونة المقام. واعترض بأن معنى (من) لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو * (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) * (التوبه: 38) * (لجعلنا منكم ملائكة) * (الزخرف: 60) وللمجاوزة كعذت منه، فعلى هذا لو علق * (من مثله) * ب * (فأتوا) * وحمل (من) على البدل أو المجاوزة و - مثل - على المقحم ورجع الضمير إلى * (ما أنزلنا) * على معنى: فأتوا بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه، الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة - لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه: وبمنزلة المكان ما ليس بمكان ولا زمان نحو - قرأت من أول السورة إلى آخرها، وأعطيتك من درهم إلى دينار - وأيضا فالاتيان ببعض الشيء تفريقه منه، ولا يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه، ويمكن أن يقال وهو الذي اختاره مولانا الشهاب أن المراد من الآية التحدي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه، فمقتضى المقام أن يقال لهم: معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند الله ائتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه، وما ذكر يدل على هذا إذا كان من مثله صفة سورة سواء كان الضمير لما أو للعبد لأن معناه ائتوا بمقدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد، مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله أو ائتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضا، فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضا ائتوا من مثل هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله فيفيد ما ذكرنا، ولو رجع على هذا لما كان معناه ائتوا من مثل هذا المنزل بسورة، ولا شك أن (من) ليست بيانية لأنها لا تكون لغوا ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي ابتدائية والمبدأ ليس فاعليا بل ماديا، فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به، فلا يخلو من أن يدعى وجوده وهو خلاف الواقع وابتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتضى أولا ولا يليق بالتنزيل، وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له؟! والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد، و (ما) على تقديري اللغو والاستقرار