تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ١٨٨
لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين أو للتشويق إلى ما يأتي بعده لا سيما بعد الاشعار بمنفعته فيتمكن عند وروده فضل تمكن، أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب الأطراف، واختار سبحانه لفظ السماء على السموات موافقة للفظ الأرض وليس في التصريح بتعددها هنا كثير نفع، ومع هذا يحتمل أن يراد بها مجموع السموات، وكل طبقة وجهة منها، والبناء في الأصل مصدر أطلق على المبني بيتا كان أو قبة أو خباء أو طرافا، ومنه بنى بأهله أو على أهله خلافا للحريري لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا خباء جديدا ليدخلوا على العروس فيه، والمراد بكون السماء بناء أنها كالقبة المضروبة أو أنها كالسقف للأرض، ويقال لسقف البيت بناء، وروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقدم سبحانه حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر، أو لأنه تعالى لما ذكر خلقهم ناسب أن يعقبه بذكر أول ما يحتاجونه بعده وهو المستقر أو ليحصل العروج من الأدنى إلى الأعلى، أو لأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء كما يدل عليه ظواهر كثير من الآيات أو لأن الأرض لكونها مسكن النبيين ومنها خلقوا أفضل من السماء، وفي ذلك خلاف مشهور، وقرأ يزيد الشامي (بساطا)، وطلحة (مهادا) وهي نظائر، وأدغم أبو عمرو لام (جعل) في لام (لكم).
* (وأنزل من السمآء فأخرج فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) * عطف على (جعل) و * (من) * الأولى للابتداء متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وقدم عليه للتشويق على الأول مع ما فيه من مزيد الانتظام مع ما بعد، أو لأن السماء أصله ومبدؤه ولتتأتى الحالية على الثاني إذ لو قدم المفعول وهو نكرة صار الظرف صفة، وذكر في " البحر " أن * (من) * على هذا للتبعيض أي من مياه السماء وهو كما ترى. والمراد من السماء جهة العلو أو السحاب وإرادة الفلك المخصوص بناء على الظواهر غير بعيدة نظرا إلى قدرة الملك القادر جل جلاله وسمت عن مدارك العقل أفعاله، إلا أن الشائع أن الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري أثارت من البحار بخارا رطبا ومن البراري يابسا، فإذا صعد البخاري إلى طبقة الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قويا اجتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف، فالمجتمع سحاب والمتقاطر مطر، وإن كان قويا كان ثلجا وبردا، وقد لا ينعقد ويسمى ضبابا. وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد وعلى هذا يراد بالنزول من السماء نشوؤه من أسباب سماوية وتأثيرات أثيرية فهي مبدأ مجازي له، على أن من انجاب عن عين بصيرته سحاب الجهل رأى أن كل ما في هذا العالم السفلي نازل من عرش الإرادة وسماء القدرة حسبما تقتضيه الحكمة بواسطة أو بغير واسطة كما يشير إليه قوله تعالى: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) * (الحجر: 21) بل من علم أن الله سبحانه في السماء - على المعنى الذي أراده وبالوصف الذي يليق به مع التنزيه اللائق بحلال ذاته تعالى - صح له أن يقول: إن ما في العالمين من تلك السماء، ونسبة نزوله إلى غيرها أحيانا لاعتبارات ظاهرة وهي راجعة إليه في الآخرة. الماء معروف، وعرفه بعضهم بأنه جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة عن واو همزته بدل من هاء كما يدل عليه مويه ومياه وأمواه وتنوينه للبعضية، وخصه سبحانه بالنزول من السماء في كثير من الآيات تنويها بشأنه لكثرة منفعته ومزيد بركته، و * (من) * الثانية إما للتبعيض إذ كم من ثمرة لم تخرج بعد، فرزقا حينئذ بالمعنى المصدري مفعول له لأخرج و * (لكم) * ظرف لغو مفعول به
(١٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 183 184 185 186 187 188 189 191 192 193 194 ... » »»