تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ١٨٦
من مفعول * (خلقكم) * وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة - امتنع حمل - لعل - على حقيقتها لا بالنظر إلى المتكلم لاستحالة الترجي على عالم الغيب والشهادة الفاعل لما يشاء، ولا بالنظر إلى المخاطبين لأنهم حين الخلق لم يكونوا عالمين فكيف يتصور الرجاء منهم؟! ولا يجوز جعلها حالا مقدرة لأن المقدر حال الخلق التقوى لا رجاؤها فلا بد أن يحمل على المعنى المجازي بأن يشبه طلب التقوى منهم بعد اجتماع أسبابه ودواعيه بالترجي في أن متعلق كل واحد منهما مخير بين أن يفعل وأن لا يفعل مع رجحان ما بجانب الفعل فيستعمل كلمة - لعل - الموضوع له فيه فيكون استعارة تبعية أو تشبه صورة منتزعة من حال خالقهم بالقياس إليهم بعد أن مكنهم على التقوى وتركها مع رجحانها منهم بحال المرتجى بالقياس إلى المرتجى منه القادر على المرتجى، وتركه مع رجحان وجوده فيكون استعارة تمثيلية إلا أنه ذكر من المشبه به ما هو العمدة فيه أعني كلمة - لعل - أو تشبه ذواتهم بمن يرجى منه التقوى فيثبت له بعض لوازمه أعني الرجاء فيكون استعارة بالكناية، وجعل المشبه إرادته تعالى في الاستعارة والتمثيل نزغة اعتزالية مؤسسة على القاعدة القائلة بجواز تخلف المراد عن إرادته تعالى شأنه وبعضهم قال بالترجي هنا إلا أنه ليس من المتكلم ولا من المخاطب بل من غيرهما كما في قوله تعالى: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) * (هود: 12) لأنه لما ولد كل مولود على الفطرة كان بحيث أن تأمله متأمل توقع منه رجاء أن يكون متقيا وليس بالبعيد، وإن جعلت حالا من فاعل * (خلقكم) * امتنعت الحقيقة أيضا وتعينت بعض الوجوه، وإن جعلت حالا من ضمير * (اعبدوا) * جاز إبقاء الترجي على حقيقته مصروفا إلى المخاطبين - أي راجين التقوى - والمراد بها حينئذ منتهى درجات السالكين وهو طرح الهوى ونبذ السوى والفوز بالمحبوب الأعلى وفي ذلك غاية المبتغى والعروج فوق سدرة المنتهى. وقد شاع ذلك عند الأقصى والأدنى وبذلك يصح الترغيب ويندفع ما قيل إن اللائق بالبلاغة القرآنية أن يعتبر من أول الأمر غاية عبادتهم وما هو لذة لهم - أعني الثواب - لا ما يشق عليهم وهو التقوى وإن كان مفضيا إليه ووجه الدفع ظاهر، وما قاله المولى التفتازاني من أن تقييد العبادة بترجي التقوى ليس له كثير معنى إنما المناسب تقييدها بالتقوى أو اقترانها برجاء ثوابها يدفعه أن في الترجي تنبيها على أن العابد ينبغي أن لا يفتر في عبادته ويكون ذا خوف ورجاء، نعم قالوا: الحال قيد لعاملها وهو هنا الأمر، فإن قلنا: إنه أعم من الوجوب فلا إشكال، وإن قلنا: إنه حقيقة في الوجوب اقتضى وجوب الرجاء المقيد به العبادة المأمور بها ولعله ليس بواجب والقول بأنه يقتضي وجوب المقيد دون القيد فيه كلام في الأصول لا يخفى على ذويه. وما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه التوسط بين العصا ولحائها، فإن * (الذي جعل لكم الأرض) * (البقرة: 22) موصول بربكم صفة له - يجاب عنه بأن القطع يهون الفصل وإن كان هناك اتصال معنوي، وإن جعل * (الذي جعل) * مبتدأ - خبره (لا تجعلوا) كاد يزول الإشكال ويرتفع المقال، ومع هذا لا شك في مرجوحية هذا الوجه وإن أشعر كلام مولانا البيضاوي بأرجحيته، ثم لا يبعد أن يقال: إن المعنى في الآية على التعليل إما لأن (لعل) تجيء بمعنى كي كما ذهب إليه ابن الأنباري وغيره واستشهدوا بقوله:
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا * نكف ووثقتم لنا كل موثق أو لأنها تجيء للأطماع فيكنى به بقرينة المقام عن تحقق ما بعدها على عادة الكبراء، ثم يتجوز به عن كل متحقق
(١٨٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 181 182 183 184 185 186 187 188 189 191 192 ... » »»