تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١ - الصفحة ١٨١
ولما فيه من مكابرة الحس ظاهرا - أنكره أهل الظاهر، نعم يسلمه العارفون من أهل الشهود وناهيك بهم حتى إنهم زادوا على ذلك فقالوا: إن الجواهر لا تبقى زمانين أيضا والناس في لبس من خلق جديد، وأنا أسلم ما قالوا وأفوض أمري إلى الله الذي لا يتقيد بشأن وقد كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، ثم المراد من هذا التمثيل تشبيه حال المنافقين في الشدة ولباس إيمانهم المبطن بالكفر المطرز بالخداع حذر القتل بحال ذوي مطر شديد فيه ما فيه يرقعون خروق آذانهم بأصابعهم حذر الهلاك إلى آخر ما علم من أوصافهم، ووجه الشبه وجدان ما ينفع ظاهره وفي باطنه بلاء عظيم، وقيل: شبه سبحانه المنافقين بأصحاب الصيب، وإيمانهم المشوب بصيب فيه ما تلى من حيث إنه وإن كان نافعا في نفسه لكنه لما وجد كذا عاد نفعه ضرا، ونفاقهم حذرا عن النكاية بجعل الأصابع في الآذان ممادها حذر الموت من حيث إنه لا يرد من القدر شيئا وتحيرهم لشدة ما عنى وجهلهم بما يأتون ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن يخطف أبصارهم فخطوا يسيرا ثم إذا خفي بقوا متقيدين لا حراك لهم، وقيل: جعل الإسلام الذي هو سبب المنافع في الدارين كالصيب الذي هو سبب المنفعة وما في الإسلام من الشدائد والحدود بمنزلة الظلمات والرعد وما فيه من الغنيمة والمنافع بمنزلة البرق فهم قد جعلوا أصابعهم في آذانهم من سماع شدائده وإذا لمع لهم برق غنيمة مشوا فيه وإذا أظلم عليهم بالشدائد قاموا متحيرين، وقيل غير ذلك، وما تقتضيه جزالة التنزيل وتستدعيه فخامة شأنه الجليل غير خفي عليك إذا لمعت بوارق العناية لديك.
ومن البطون تشبيه من ذكر في التشبيه الأول بذوي صيب فيكون قوله تعالى: * (كلما أضاء) * الخ إشارة إلى أنهم كلما وجدوا من طاعتهم حلاوة وعرضا عاجلا * (مشوا فيه) * وإذا حبس عليهم طريق الكرامات تركوا الطاعات، وقال الحسين: إذا أضاء لهم مرادهم من الدنيا في الدين أكثروا من تحصيله وإذا أظلم عليهم قاموا متحيرين.
* (ي‍اأيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) * * (يأيها الناس اعبدوا ربكم) * لما بين سبحانه فرق المكلفين وقسمهم إلى مؤمنين وكفار ومذبذبين، وقال في الطائفة الأولى: * (الذين يؤمنون) * (البقرة: 3) وفي الثانية: * (سواء عليهم) * (البقرة: 6) وفي الثالثة: * (يخادعون الله) * (البقرة: 9) وشرح ما ترجع إليه أحوالهم دنيا وأخرى فقال سبحانه في الأولى: * (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * (البقرة: 5) وفي الثانية: * (ختم الله على قلوبهم... ولهم عذاب عظيم) * (البقرة: 7) وفي الثالثة: * (في قلوبهم مرض... ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) * (البقرة: 10) أقبل عز شأنه عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزا لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقلوبهم نحو التلقي وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذيذ المخاطبة ويكفي للنكتة الوجود في البعض، و (يا) حرف لا اسم فعل على الصحيح وضع لنداء البعيد، وقيل: لمطلق النداء أو مشتركة بين أقسامه، وعلى الأول ينادي بها القريب لتنزيله منزلة غيره إما لعلو مرتبة المنادي أو المنادى، وقد ينزل غفلة السامع وسوء فهمه منزلة بعده، وقد يكون ذلك للاعتناء بأمر المدعو له والحث عليه لأن نداء البعيد وتكليفه الحضور لأمر يقتضي الاعتناء والحث، فاستعمل في لازم معناه على أنه مجاز مرسل أو استعارة تبعية في الحرف أو مكنية وتخييلية - وهو مع المنادى المنصوب لفظا أو تقديرا به لنيابته عن نحو ناديت الإنشائي أو بناديت اللازم الإضمار لظهور معناه مع قصد الإنشاء - كلام يحسن السكوت عليه كما يحسن في نحو (لا، ونعم) و (أي) لها معان شهيرة والواقعة في النداء نكرة موضوعة لبعض من كل، ثم تعرفت بالنداء وتوصل بها لنداء ما فيه - أل - لأن (يا) لا يدخل عليها في غير الله إلا شذوذا لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وهما لا يجتمعان إلا فيما شذ من نحو: فلا والله لا يلفي لما بي * ولا للما بهم أبدا دواء
(١٨١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 176 177 178 179 180 181 182 183 184 185 186 ... » »»