تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٤٨
والعدم. وجوز في انتصاب سواء وجهين: أحدهما: أن يكون منصوبا على الحال، وكالذين المفعول الثاني، والعكس. وقرأ الأعمش: سواء بالنصب، محياهم ومماتهم بالنصب أيضا، وخرج على أن يكون محياهم ومماتهم ظرفي زمان، والعامل، إما أن نجعلهم، وإما سواء، وانتصب على البدل من مفعول نجعلهم، والمفعول الثاني سواء، أي أن يجعل محياهم ومماتهم سواء. وقال الزمخشري: ومن قرأ ومماتهم بالنصب، جعل محياهم ومماتهم ظرفين، كمقدم الحاج وخفوق النجم، أي سواء في محياهم وفي مماتهم، والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا، وأن يستووا مماتا، لافتراق أحوالهم وتمثيله بقوله: وخفوق النجم ليس بجيد، لأن خفوق مصدر ليس على مفعل، فهو في الحقيقة على حذف مضاف، أي وقت خفوق النجم، بخلاف محيا وممات ومقدم، فإنها تستعمل بالوضع مصدرا واسم زمان واسم مكان، فإذا استعملت اسم مكان أو اسم زمان، لم يكن ذلك على حذف مضاف قامت هذه مقامه، لأنها موضوعة للزمان وللمكان، كما وضعت للمصدر؛ فهي مشتركة بين هذه المدلولات الثلاثة، بخلاف خفوق النجم، فإنه وضع للمصدر فقط.
وقد خلط ابن عطية في نقل القرآن، وله بعض عذر. فإنه لم يكن معربا، فقال: وقرأ طلحة بن مصرف، وعيسى بخلاف عنه: سواء بالنصب، محياهم ومماتهم بالرفع، وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص، والأعمش: سواء بالنصب، محياهم ومماتهم بالنصب؛ ووجه كلا من القراءتين على ما تقتضيه صنعة الإعراب، وتبعه على هذا الوهم صاحب التحرير، وهو معذور، لأنه ناسخ من كتاب إلى كتاب؛ والصواب ما استبناه من القراءات لمن ذكرنا. ويستنبط من هذه الآية تباين حال المؤمن العاصي من حال الطائع، وإن كانت في الكفار، وتسمى مبكاة العابدين. وعن تميم الداري، رضي الله عنه، أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكي ويردد إلى الصباح: * (ساء ما يحكمون) *. وعن الربيع بن خيثم، أنه كان يرددها ليلة أجمع، وكذلك الفضيل بن عياض، كان يقول لنفسه: ليت شعري من أي الفريقين أنت؟ وقال ابن عطية: وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر، بدليل معادلته بالإيمان؛ ويحتمل أن تكون المعادلة هي بالاجتراح وعمل الصالحات، ويكون الإيمان في الفريقين، ولهذا بكى الخائفون.
* (ساء ما يحكمون) *: هو كقوله: * (بئسما اشتروا) *، وتقدم إعرابه في البقرة. وقال ابن عطية: هنا ما مصدرية، والتقدير: ساء الحكم حكمهم. * (بالحق) *: بأن خلقها حق، واجب لما فيه من فيض الخيرات، وليدل عليه دلالة الصنعة على الصانع. * (* ولتجزي) *: هي لام كي معطوفة على بالحق، لأن كلا من التاء واللام يكونان للتعليل، فكان الخلق معللا بالجزاء. وقال الزمخشري: أو على معلل محذوف تقديره: ليدل بها على قدرته، * (بالحق ولتجزى كل نفس) *. وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكون لام الصيرورة، أي فصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون، لأن يجازي كل واحد بعمله، وبما اكتسب من خير أو شر. انتهى. * (أفرأيت) * الآية، قال مقاتل: نزلت في الحرث بن قيس السهمي، وأفرأيت: هو بمعنى أخبرني، والمفعول الأول هو: * (من اتخذ) *، والثاني محذوف تقديره بعد الصلاة التي لمن اهتدى، يدل عليه قوله بعد: * (فمن يهديه من بعد الله) *، أي لا أحد يهديه من بعد إضلال الله إياه. * (من اتخذ إلاهه هواه) *: أي هو مطواع لهوى نفسه، يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده، كما يعبد الرجل إلهه. قال ابن جبير، إشارة إلى الأصنام: إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة. وقال قتادة: لا يهوى شيئا إلا ركبه، لا يخاف الله، فلهذا يقال: الهوى إله معبود. وقرأ الأعرج، وأبو جعفر: آلهة، بتاء التأنيث، بدل من هاء الضمير. وعن الأعرج أنه قرأ: آلهة على الجمع. قال ابن خالويه: ومعناه أن أحدهم كان يهوى الحجر فيعبده، ثم يرى غيره فيهواه، فيلقى الأول، فكذلك قوله: * (إلاهه هواه) * الآية. وإن نزلت في هوى الكفر، فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة. قال ابن عباس: ما ذكر الله هوى إلا ذمه. وقال وهب: إذا شككت في خبر أمرين، فانظر أبعدهما من هواك فأته. وقال سهل التستري: هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك. وفي الحديث: (والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني). ومن حكمه الشعر قول عنترة، وهو جاهلي:
(٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 ... » »»