تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٥٩
عليهم أحلامه، فعلموا أنه صاحب دولة، وعموا، فأصحبوه عبد الله بن سلام، فقرأ علوم التوراة وفقهها مدة، زعموا وأفرطوا في كذبهم، إلى أن نسبوا الفصاحة المعجزة التي في القرآن إلى تأليف عبد الله بن سلام، وعبد الله هذا لم تعلم له إقامة بمكة ولا تردد إليها. فما أكذب اليهود وأبهتهم لعنهم الله. وناهيك من طائفة، ما ذم في القرآن طائفة مثلها.
* (وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هاذا إفك قديم) *.
قال قتادة: هي مقالة كفار قريش للذين آمنوا: أي لأجل الذين آمنوا: واللام للتبليغ. ثم انتقلوا إلى الغيبة في قولهم: * (ما سبقونا) *، ولو لم ينتقلوا لكان الكلام ما سبقتم إليه. ولما سمعوا أن جماعة آمنوا خاطبوا جماعة من المؤمنين، أي قالوا: * (للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه) *: أولئك الذين بلغنا إيمانهم يريدون عمارا وصهيبا وبلالا ونحوهم ممن أسلم وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم). وقال الكلبي والزجاج: هي مقالة كنانة وعامر وسائر قبائل العرب المجاورة. قالت ذلك حين أسلمت غفار ومزينة وجهينة، أي لو كان هذا الدين خيرا، ما سبقنا إليه الرعاة. وقال الثعلبي: هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام وغيره منهم. وقال أبو المتوكل: أسلم أبو ذر، ثم أسلمت غفار، فقالت قريش ذلك. وقيل: أسلمت أمة لعمر، فكان يضربها، حتى يفتر ويقول: لولا أني فترت لزدتك ضربا فقال كفار قريش: لو كان ما يدعو إليه محمد حقا، ما سبقتنا إليه فلانة. والظاهر أن اسم كان هو القرآن، وعليه يعود به ويؤيده، ومن قبله كتاب موسى. وقيل: به عائد على الرسول، والعامل في إذ محذوف، أي * (وإذ لم يهتدوا به) *، ظهر عنادهم. وقوله: * (فسيقولون) *، مسبب عن ذلك الجواب المحذوف، لأن هذا القول هو ناشىء عن العناد، ويمتنع أن يعمل في: إذ فسيقولون، لحيلولة الفاء، وليعاند زمان إذ وزمان سيقولون. * (إفك قديم) *، كما قالوا: * (أساطير الاولين) *، وقدمه بمرور الأعصار عليه.
ولما طعنوا في صحة القرآن، قيل لهم: إنه أنزل الله من قبله التوراة على موسى، وأنتم لا تنازعون في ذلك، فلا ينازع في إنزال القرآن. * (إماما) * أي يهتدى به، إن فيه البشارة بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم) وإرساله، فليزم اتباعه والإيمان به؛ وانتصب إماما على الحال، والعامل فيه العامل في: * (ومن قبله) *، أي وكتاب موسى كان من قبل القرآن في حال كونه إماما. وقرأ الكلبي: كتاب موسى، نصب وفتح ميم من على أنها موصولة، تقديره: وآتينا الذي قبله كتاب موسى. وقيل: انتصب إماما بمحذوف، أي أنزلناه إماما، أي قدوة يؤتم به، * (ورحمة) * لمن عمل به؛ وهذا إشارة إلى القرآن. * (كتاب مصدق) * له، أي لكتاب موسى، وهي التوراة التي تضمنت خبره وخبر من جاء به، وهو الرسول. فجاء هو مصدقا لتلك الأخبار، أو مصدقا للكتب الإلهية. ولسانا: حال من الضمير في مصدق، والعامل فيه مصدق، أو من كتاب، إذ قد وصف العامل فيه اسم الإشارة. أو لسانا: حال موطئة، والحال في الحقيقة هو عربيا، أو على حذف، أي ذا الشأن عربي، فيكون مفعولا بمصدق؛ أي هذا القرآن مصدق من جاء به وهو الرسول،
(٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 ... » »»