التحرير والتحبير: هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا استدراج المخاطب، وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، والقوم على تكذيبه، أراد الانتصار له بطريق يخفي عليهم بها أنه متعصب له، وأنه من أتباعه، فجاءهم من طريق النصح والملاطفة فقال: * (أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله) *، ولم يذكر اسمه، بل قال رجلا يوهم أنه لا يعرفه ولا يتعصب له، * (أن يقول ربى الله) *، ولم يقل رجلا مؤمنا بالله، أو هو نبي الله، إذ لو قال شيئا من ذلك لعلموا أنه متعصب. ولم يقبلوا قوله، ثم اتبعه بما بعد ذلك، فقدم قوله: * (وإن يك كاذبا) *، موافقة لرأيهم فيه. ثم تلاه بقوله: * (وإن يك صادقا) *، ولو قال هو صادق وكل ما يعدكم، لعلموا أنه متعصب، وأنه يزعم أنه نبي، وأنه يصدقه، فإن الأنبياء لا تخل بشيء مما يقولونه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدق، وهو قوله: * (إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب) *. انتهى.
ثم قال: * (عليه قوم) * نداء متلطف في موعظتهم. * (لكم الملك اليوم ظاهرين) *: أي عالمين: * (فى الارض) *: في أرض مصر، قد غلبتم بني إسرائيل فيها، وقهرتموهم واستعبدتموهم، وناداهم بالملك الذي هو أعظم مراتب الدنيا وأجلها، وهو من جهة شهواتهم، وانتصب ظاهرين على الحال، والعامل فيها هو العامل في الجار والمجرور، وذو الحال هو ضمير لكم. ثم حذرهم أن يفسدوا على أنفسهم بأنه إن جاءهم بأسس الله لم يجدوا ناصرا لهم ولا دافعا، وأدرج نفسه في قوله: * (ينصرنا) *، وجاءنا لأنه منهم في القرابة، وليعلمهم أن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه. وأقوال هذا المؤمن تدل على زوال هيبة فرعون من قلبه، ولذلك استكان فرعون وقال: * (ما * أريكم إلا ما أرى) *: أي ما أشير عليكم إلا بقتله، ولا أستصوب إلا ذلك، وهذا قول من لا تحكم له، وأتى بما وإلا للحصر والتأكيد.
* (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) *، لا ما تقولونه من ترك قتله وقد كذب، بل كان خائفا وجلا، وقد علم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق، ولكنه كان يتجلد، ويرى ظاهره خلاف ما أبطن. وأورد الزمخشري وابن عطية وأبو القاسم الهذلي هنا أن معاذ بن جبل قرأ الرشاد بشد الشين. قال أبو الفتح: وهو اسم فاعل في بنية مبالغة من الفعل الثلاثي رشد، فهو كعباد من عبد. وقال الزمخشري: أو من رشد، كعلام من علم. وقال النحاس: هو لحن، وتوهمه من الفعل الرباعي، ورد عليه أنه لا يتعين أن يكون من الرباعي، بل هو من الثلاثي، على أن بعضهم قد ذهب إلى أنه من الرباعي، فبنى فعال من أفعل، كدراك من أدرك، وسآر من أسأر، وجبار من أجبر، وقصار من أقصر، ولكنه ليس بقياس، فلا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة، وفعال من الثلاثي مقيس فحمل عليه. وقال أبو حاتم: كان معاذ بن جبل يفسرها بسبيل الله. قال ابن عطية: ويبعد عندي على معاذ رضي الله عنه. وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله؟ وتعلق بناء اللفظ على هذا التأويل. انتهى. وإيراد الخلاف في هذا الحرف الذي هو من قول فرعون خطأ، وتركيب قول معاذ عليه خطأ، والصواب أن الخلاف فيه هو قول المؤمن: * (اتبعون أهدكم سبيل الرشاد) *. قال أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح) له من شواذ القراءات ما نصه: معاذ بن جبل سبيل الرشاد، الحرف الثاني بالتشديد، وكذلك الحسن، وهو سبيل الله تعالى الذي أوضح الشرائع، كذلك فسره معاذ بن جبل، وهو منقول من مرشد، كدراك من مدرك، وجباز من مجبر، وقصار من مقصر عن الأمر، ولها نظائر معدودة، فأما قصار فهو من قصر من الثوب قصارة. وقال ابن خالويه، بعد أن ذكر الخلاف في التناد وفي صد عن السبيل ما نصه: سبيل الرشاد بتشديد الشين، معاذ بن جبل. قال ابن خالويه: يعني بالرشاد الله تعالى. انتهى. فهذا لم يذكر الخلاف إلا في قول المؤمن: * (أهدكم سبيل الرشاد) *، فذكر الخلاف فيه في قول فرعون خطأ، ولم يفسر معاذ بن جبل الرشاد أنه الله تعالى إلا في قول المؤمن، لا في قول فرعون. قال ابن عطية: ذلك التأويل من قول فرعون وهم.
* (وقال الذىءامن ياقوم * قوم * إنى أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب * مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد * للعباد * وياقوم إنى أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد * ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم فى شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث (سقط: من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب، الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان آتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين)) *.