على التبليغ، والمعنى: لا أسئلكم عليه شيئا من أموالكم. وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته، لأن تقوى الله سبب لطاعة نوح عليه السلام. ثم كرر الأمر بالتقوى والطاعة، ليؤكد عليهم ويقرر ذلك في نفوسهم، وإن اختلف التعليل، جعل الأول معلولا لأمانته، والثاني لانتفاء أخذ الأجر. ثم لم ينظروا في أمر رسالته، ولا تفكروا فيما أمرهم به، لما جبلوا عليه ونشؤوا من حب الرئاسة، وهي التي تطبع على قلوبهم. فشرع أشرافهم في تنقيص متبعيه، وأن الحامل على انتفاء إيمانهم له، كونه اتبعه الأرذلون.
وقوله: * (واتبعك الارذلون) *، جملة حالية، أي كيف نؤمن وقد اتبعك أراذلنا، فنتساوى معهم في اتباعك؟ وكذا فعلت قريش في شأن عمار وصهيب. والضعفاء أكثر استجابة من الرؤساء، لأن أدهانهم ليست مملوءة بزخارف الدنيا، فهم أدرك للحق وأقبل له من الرؤساء. وقرأ الجمهور: واتبعك فعلا ماضيا. وقرأ عبد الله، وابن عباس، والأعمش، وأبو حيوة، والضحاك، وابن السميفع، وسعيد بن أبي سعد الأنصاري، وطلحة، ويعقوب: واتباعك جمع تابع، كصاحب وأصحاب. وقيل: جمع تبيع، كشريف وأشراف. وقيل:. قيل: والذين آمنوا به بنوه ونساؤه وكنانة وبنو بنيه، فعلى هذا لا تكون الرذالة دناءة المكاسب؛ وتقدم الكلام في الرذالة في هود في قوله: * (إلا الذين هم أراذلنا) *، وأرادوا بذلك تنقيص نوح عليه السلام، إذ لم يعلموا أن ضعفاء الناس هم أتباع الرسل، كما ورد في حديث هرقل. وهذا الذي أجابوا به في غاية السخافة، إذ هو مبعوث إلى الخلق كافة، فلا يختلف الحال بسبب الفقر والغنى، ولا شرف المكاسب ودناءتها.
وقال ابن عطية: ويظهر من الآية أن مراد قوم نوح نسبة الرذيلة إلى المؤمنين، بتهجين أفعالهم لا النظر إلى صنائعهم، يدل على ذلك قول نوح: * (وما علمى) * الآية، لأن معنى كلامه ليس في نظري، وعلمي بأعمالهم ومعتقداتهم فائدة، فإنما أقنع بظاهرهم وأجتزىء به، ثم حسابهم على الله تعالى، وهذا نحو ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلاه إلا الله)، الحديث بجملته انتهى. وقال الكرماني: لا أطلب العلم بما عملوه، إنما على أن أدعوهم. وقال الزمخشري: وما علمي، وأي شيء علمي، والمراد انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم واطلاعه على سرائرهم؛ وإنما قال هذا لأنهم قد طعنوا في استرذالهم في إيمانهم، وأنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما آمنوا هوى وبديهة، كما حكى الله عنهم في قوله: * (الذين هم أراذلنا) * بادىء الرأي. ويجوز أن يتعالى لهم نوح عليه السلام، فيفسر قولهم: الأرذلون، بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقائد، ولا يلتفت إلى ما هو الرذالة عندهم. ثم بنى جوابه على ذلك فيقول: ما علي إلا اعتبار الظواهر، دون التفتيش على أسرارهم والشق عن قلوبهم، وإن كان لهم شيء، فالله محاسبهم ومجازيهم، وما أنا إلا منذر لا محاسب، ولا مجاز، لو تشعرون ذلك، ولكنكم تجهلون، فتنساقون مع الجهل حيث سيركم. وقصد بذلك رد اعتقادكم، وإنكار أن يسمى المؤمن رذلا، وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسبا. فإن الغنى غنى الدين، والنسب نسب التقوى. انتهى. وهو تكثير. وقال الحوفي: وما علمي ماانا فيه، والباء متعلقة بعلمي. انتهى. وهذا التخريج يحتاج فيه إلى إضمار خبر حتى تصير جملة ولما كانوا لا يصدقون بالحساب ولا بالبعث، أردفه بقوله: * (لو تشعرون) *، أي بأن المعاد حق، والحساب حق. وقرأ الجمهور: تشعرون بتاء الخطاب. وقرأ الأعرج، وأبو زرعة، وعيسى بن عمر الهمداني: بياء الغيبة.
* (وما أنا بطارد المؤمنين) *: هذا مشعر بأنهم طلبوا منه ذلك فأجابهم بذلك، كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يطرد من آمن من الضعفاء، فنزلت: * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) * الآية، أي لا أطردهم عني لاتباع شهواتكم والطمع في إيمانكم. * (إن أنا إلا نذير مبين: ما جئت به بالبرهان الصحيح الذي يميز به الحق من الباطل. ولما اعتلوا في ترك إيمانهم بإيمان من هو دونهم، دل ذلك على أنهم لم تثلج صدورهم للإيمان، إذ اتباع الحق لا يأنف منه أحد لوجود الشركة فيه، أخذوا في التهديد والوعيد.
* (قالوا لئن لم تنته يا نوح) * عن تقبيح ما نحن عليه، وادعائك الرسالة من الله، * (لتكونن من المرجومين) *، أي بالحجارة، وقيل: بالشتم