تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٤٣
تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون) *.
كان مشركو قريش يقولون: إن لمحمد تابعا من الجن يخبره كما يخبر الكهنة، فنزلت، والضمير في * (به) * يعود على القرآن، بل * (نزل به الروح الامين) *. وقرأ الحسن: الشياطون، وتقدمت في البقرة، وقد ردها أبو حاتم والقراء؛ قال أبو حاتم: هي غلط منه أو عليه. وقال النحاس: هو غلط عند جميع النحويين. وقال المهدوي: هو غير جائز في العربية. وقال الفراء: غلط الشيخ، ظن أنها النون التي على هجائن. فقال النضر بن شميل: إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤية، فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه، يريد محمد بن السميفع، مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ بها إلا وقد سمعا فيه؟ وقال يونس بن حبيب: سمعت أعرابيا يقول: دخلت بساتين من ورائها بساتون، فقلت: ما أشبه هذا بقراءة الحسن. انتهى. ووجهت هذه القراءة بأنه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين، فكما أجرى إعراب هذا على النون تارة وعلى ما قبله تارة فقالوا: يبرين ويبرون وفلسطين وفلسطون؛ أجرى ذلك في الشياطين تشبيها به فقالوا: الشياطين والشياطون. وقال أبو فيد مؤرج السدوسي : إن كان اشتقاقه من شاط، أي احترق، يشيط شوطة، كان لقراء تهما وجه. قيل: ووجهها أن بناء المبالغة منه شياط، وجمعه الشياطون، فخففا الياء، وقد روي عنهما التشديد، وقرأ به غيرهما. انتهى. وقرأ الأعمش: الشياطون، كما قرأه الحسن وابن السميفع. فهؤلاء الثلاثة من نقلة القرآن، قرؤوا ذلك، ولا يمكن أن يقال غلطوا، لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان. وما أحسن ما ترتب نفي هذه الجمل؛ نفى أولا تنزيل الشياطين به، والنفي في الغالب يكون في الممكن، وإن كان هنا لا يمكن من الشياطين التنزل بالقرآن، ثم نفى انبغاء ذلك والصلاحية، أي ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلا له، ثم نفى قدرتهم على ذلك وأنه مستحيل في حقهم التنزل به، فارتقى من نفي الإمكان إلى نفي الصلاحية إلى نفي القدرة والاستطاعة، وذلك مبالغة مترتبة في نفي تنزيلهم به، ثم علل انتفاء ذلك عن استماع كلام أهل السماء مرجومون بالشهب.
ثم قال تعالى: * (فلا تدع مع الله إلاها ءاخر) *: والخطاب في الحقيقة للسامع، لأنه تعالى قد علم أن ذلك لا يمكن أن يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم)، ولذلك قال المفسرون: المعنى قل يا محمد لمن كفر: لا تدع مع الله إلها آخر. ثم أمره تعالى بإنذار عشيرته، والعشيرة تحت الفخذ وفوق الفصيلة، ونبه على العشيرة، وإن كان مأمورا بإنذار الناس كافة. كما قال: * (أن أنذر الناس) *، لأن في إندارهم، وهم عشيرته، عدم محاباة ولطف بهم، وأنهم والناس في ذلك شرع واحد في التخويف والإنذار. فإذا كانت القرابة قد خوفوا وأنذروا مع ما يلحق الإنسان في حقهم من الرأفة، كان غيرهم في ذلك أوكد وأدخل، أو لأن البداءة تكون بمن يليه ثم من بعده، كما قال: * (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) *. وقال عليه الصلاة والسلام حين دخل مكة: (كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، فأول ما أضعه ربا العباس، إذ العشيرة مظنة الطواعية، ويمكنه من الغلظة عليهم ما لا يمكنه مع غيرهم، وهم له أشد احتمالا). وامتثل صلى الله عليه وسلم) ما أمره به ربه من إنذار عشيرته، فنادى الأقرب فالأقرب فخذا. وروي عنه في ذلك أحاديث. * (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) *: تقدم الكلام على هذه الجمل في آخر الحجر، وهو كناية عن التواضع. وقال بعض الشعراء:
* وأنت الشهير بخفض الجناح * فلا تك في رفعه أجدلا *
(٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 ... » »»