تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٣٧
النفوس قد تشح بذلك فمن فعله فقد أحسن، ومن تركه فلا حرج). وتقدم تفسير القسطاس في سورة الإسراء. وقال الزمخشري: إن كان من القسط، وهو العدل، وجعلت الغين مكررة، فوزنه فعلاء، وإلا فهو رباعي. انتهى. ولو تكرر ما يماثل العين في النطق، لم يكن عند البصريين إلا رباعيا. وقال ابن عطية: هو مبالغة من القسط. انتهى. والظاهر أن قوله: * (وزنوا) *، هو أمر بالوزن، إذ عادل قوله: * (أوفوا الكيل) *، فشمل ما يكال وما يوزن مما هو معتاد فيه ذلك. وقال ابن عباس ومجاهد: معناه عدلوا أموركم كلها بميزان العدل الذي جعله الله لعباده.
* (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) *: الجملة والتي تليها تقدم الكلام عليهما. ولما تقدم أمره عليه السلام إياهم بتقوى الله، أمرهم ثانيا بتقوى من أوجدهم وأوجد من قبلهم، تنبيها على أن من أوجدهم قادر على أن يعذبهم ويهلكهم. وعطف عليهم * (والجبلة) * إيذانا بذلك، فكأنه قيل: يصيركم إلى ما صار إليه أولوكم، فاتقوا الله الذي تصيرون إليه. وقرأ الجمهور: والجبلة بكسر الجيم والباء وشد اللام. وقرأ أبو حصين، والأعمش، والحسن: بخلاف عنه، بضمها والشد للام. وقرأ السلمي: والجبلة، بكسر الجيم وسكون الباء، وفي نسخة عنه: فتح الجيم وسكون الباء، وهي من جبلوا على كذا، أي خلقوا. قيل: وتشديد اللام في القراءتين في بناءين للمبالغة. وعن ابن عباس: الجبلة: عشرة آلاف. * (وما أنت) *: جاء هنا بالواو، وفي قصة هود: * (ما أنت) *، بغير واو. فقال الزمخشري: إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان، كلاهما مخالف للرسالة عندهم، التسخير والبشرية، وأن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا، ولا يجوز أن يكون بشرا، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد، وهو كونه مسحرا، ثم قرر بكونه بشرا. انتهى.
* (وإن نظنك لمن الكاذبين) *: إن هي المخففة من الثقيلة، واللام في لمن هي الفارقة، خلافا للكوفيين، فإن عندهم نافية واللام بمعنى إلا، وتقدم الخلاف في نحو ذلك في قوله: * (وإن كانت لكبيرة) * في البقرة. ثم طلبوا منه إسقاط كسف، من السماء عليهم، وليس له ذلك، فالمعنى: إن كنت صادقا، فادفع الذي أرسلك أن يسقط علينا كسفا، أي قطعة، أو قطعا على حسب التسكين والتحريك. وقال الزمخشري: وكلاهما جمع كسفة، نحو: قطع وشذر. وقيل: الكسف والكسفة، كالريع والريعة، وهي القطعة وكسفة: قطعة، والسماء: السحاب أو المظلة. ودل طلبهم ذلك على التصميم على الجحود والتكذيب. ولما طلبوا منه ما طلبوا، أحال علم ذلك إلى الله تعالى، وأنه هو العالم بأعمالكم، وبما تستوجبون عليها من العقاب، فهو يعاقبكم بما شاء.
* (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة) *، وهو نحو مما اقترحوا. ولم يذكر الله كيفية عذاب يوم الظلة، حتى أن ابن عباس قال: من حدثك ما عذاب يوم الظلة فقد كذب، وذكر في حديثها تطويلات. فروى أنه حبس عنهم الريح سبعا، فابتلوا بحر عظيم يأخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم ظل ولا ماء، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية، فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا فأحرقتهم. وكرر ما كرر في أوائل هذه القصص، تنبيها على أن طريقة الأنبياء واحدة لا اختلاف فيها، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته ورفض ما سواه، وأنهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم) مشتركون في ذلك، وأن ما جاء به صلى الله عليه وسلم) هو ما جاءت به الرسل قبله، وتلك عادة الأنبياء.
قال ابن عطية: وجاءت الألفاظ في دعاء كل واحد من هؤلاء الأنبياء واحدة بعينها، إذ كان الإيمان المدعو إليه معنى واحدا بعينه. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر؟ قلت: كل قصة منها كتنزيل برأسه، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها. فكانت كل واحدة منها تدلى بحق، إلى أن تفتتح بمثل ما افتتحت به صاحبتها، وأن تختتم بمثل ذلك مما اختتمت به، ولأن التكرير تقرير للمعاني في النفوس، وتثبيت لها في الصدور، ولأن هذه القصص طرقت بهذا آذان، وقر عن الإنصات للحق، وقلوب
(٣٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 ... » »»