تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ١٢
الضحاك: الكلام إذا خرج مخرج التبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام، والمعنى: لو لم يقتل بني إسرائيل لرباني أبواي، فأي نعمة لك علي فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به. وقيل: اتخاذك بني إسرائيل عبيدا أحبط نعمتك التي تمن بها. وقال الزمخشري: وأبي، يعني موسى عليه السلام، أن يسمي نعمته أن لا نعمة، حيث بين أن حقيقة إنعامه تعبد بني إسرائيل، لأن تعبدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنه امتن عليه بتعبيد قومه إذا حققت. وتعبيدهم: تذليلهم واتخاذهم عبيدا، يقال: عبدت الرجل وأعبدته، إذا اتخذته عبدا، قال الشاعر:
* علام يعبدني قومي وقد كثرت * فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان * فإن قلت: وتلك إشارة إلى ماذا؟ وأن عبدت ما محلها من الإعراب؟ قلت: تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، لا يدري ما هي إلا بتفسيرها؛ ومحل أن عبدت الرفع، عطف بيان لتلك، ونظيره قوله تعالى: * (وقضينآ إليه ذلك الامر أن دابر هؤلآء مقطوع مصبحين) *، والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي. وقال الزجاج: يجوز أن يكون في موضع نصب، المعنى أنها صارت نعمة علي، لأن عبدت بني إسرائيل، أي لو لم تفعل لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم. انتهى. وقال الحوفي: * (أن عبدت بنى إسراءيل) * في موضع نصب مفعول من أجله. وقال أبو البقاء: بدل، ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين، لم يسأل إذ ذاك فيقول: * (وما رب العالمين) *؟ بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي. فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل، وكان في قوله: رسول رب العالمين دعاء إلى الإقرار بربوبية الله، وإلى طاعة رب العالم، فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده. والظاهر أن سؤاله إنما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادة، وكان عالما بالله. ويدل عليه: * (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب * السماوات والارض * بصائر) *، ولكنه تعامى عن ذلك طلبا للرياسة ودعوى الإلهية، واستفهم بما استفهاما عن مجهول من الأشياء. قال مكي: كما يستفهم عن الأجناس، وقد ورد له استفهام بمن في موضع آخر، ويشبه أنها مواطن. انتهى. والموضع الآخر قوله: * (فمن ربكما ياموسى * موسى) *؟ ولما سأله فرعون، وكان السؤال بما التي هي من سؤال عن الماهية، ولم يمكن الجواب بالماهية، أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها، وهي ربوبية السماوات والأرض وما بينهما. وقال الزمخشري: وهذا السؤال لا يخلو أن يريد به أي شيء من الأشياء التي شوهدت وعرفت أجناسها، فأجاب بما يستدل عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس مما شاهد وعرف من الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، * (ليس كمثله) * شيء. وأما أن يريد أنه شيء على الإطلاق تفتيشا عن حقيقة الخاصة ما هي، فأجاب بأن الذي سألت عنه ليس إليه سبيل، وهو الكافي في معرفته معرفة بيانه بصفاته استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك؛ وأما التفتيش عن حقيقة الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق. والذي يليق بحال فرعون، ويدل عليه الكلام، أن كون سؤاله إنكارا لأن يكون للعالمين رب سواه، ألا نرى أنه يعلم حدوثه بعد العدم؟ وأنه محل للحوادث؟ وأنه لم يدع الإلاهية إلا في محل ملكه مصر؟ وأنه لم يكن ملك الأرض؟ بل كان فيها ملوك غيره، وأنبياء في ذلك الزمان يدعون إلى الله كشعيب عليه السلام؟ وأنه كان مقرا بالله تعالى في باطن أمره؟ وجاء قوله: * (وما بينهما) * على التثنية، والعائد عليه الضمير مجموع اعتبارا للجنسين: جنس السماء، وجنس الأرض؛ كما ثنى المظهر في قوله:
بين رماحي مالك ونهشل اعتبارا للجنسين: وقال أبو عبد الله الرازي يحتمل أن يقال: كان عالما بالله ولكنه قال ما قال طلبا للملك والرياسة. وقد ذكر تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفا بالله، وهو قوله: * (لقد علمت ما أنزل هؤلاء) * الآية. ويحتمل أنه كان على
(١٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 ... » »»