تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ٩٩
والعامل في * (المرسلين إذ) *. قيل: أذكر مضمرة. وقيل * (عجبا) *، ومعنى * (أوى) * جعلوه مأوى لهم ومكان اعتصام، ثم دعوا الله تعالى أن يؤتيهم رحمة من عنده وفسرها المفسرون بالرزق. وقال الزمخشري: هي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء. و * (الفتية) * جمع فتي جمع تكسير جمع قلة، وكذلك كانوا قليلين. وعند ابن السراج أنه اسم جمع لا جمع تكسير. ولفظ * (الفتية) * يشعر بأنهم كانوا شبابا وكذا روي أنهم كانوا شبابا من أبناء الأشراف والعظماء مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب وهم من الروم، اتبعوا دين عيسى عليه السلام. وقيل: كانوا قبل عيسى وأصحابنا الأندلسيون تكثر في ألفاظهم تسمية نصاري الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم، فيقولون: غزونا الروم، جاءنا الروم. وقل من ينطق بلفظ النصاري، ولما دعوا بإيتاء الرحمة وهي تتضمن الرزق وغيره، دعوا الله بأن يهيء لهم من أمرهم الذي صاروا إليه من مفارقة دين أهليهم وتوحيد الله رشدا وهي الاهتداء والديمومة عليه.
وقال الزمخشري: واجعل * (أمرنا رشدا) * كله كقولك رأيت منك أسدا. وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري: وهي ويهيي بياءين من غير همز، يعني أنه أبدل الهمزة الساكنة ياء. وفي كتاب ابن خالويه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم: وهيء لنا ويهي لكم لا يهمز انتهى. فاحتمل أن يكون أبدل الهمزة ياء، واحتمل أن يكون حذفها فالأول إبدال قياسي، والثاني مختلف فيه ينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر أو المضارع إذا كان مجزوما. وقرأ أبو رجاء: رشد بضم الراء وإسكان الشين. وقرأ الجمهور * (رشدا) * بفتحهما. قال ابن عطية: وهي أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتهما، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فإنها كافية، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة انتهى.
* (فضربنا علىءاذانهم) * استعارة بديعة للإنامة المستثقلة التي لا يكاد يسمع معها، وعبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم ومنه * (ضربت عليهم الذلة) * وضرب الجزية وضرب البعث. وقال الفرزدق:
* ضربت عليك العنكبوت بنسجها * وقضي عليك به الكتاب المنزل * وقال الأسود بن يعفر * ومن الحوادث لا أبا لك أنني * ضربت على الأرض بالأسداد وقال آخر:
إن المروءة والسماحة والندي في قبة ضربت على ابن الحشرج استعير للزوم هذه الأوصاف لهذا الممدوح، وذكر الجارحة التي هي الآذان إذ هي يكون منها السمع لأنه لا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع. وفي الحديث: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنه) أي استثقل نومه جدا حتى لا
(٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 ... » »»