تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ١٠٣
ولولا تحضيض صحبه الإنكار إذ يستحيل وقوع سلطان بين على ذلك فلا يمكن فيه التحضيض الصرف، فحضوهم على ذلك على سبيل التعجيز لهم، ومعنى * (عليهم) * على اتخاذهم آلهة و * (اتخذوا) * هنا يحتمل أن يكون بمعنى عملوا لأنها أصنام هم نحتوها، وأن تكون بمعنى صيروا، وفي ما ذكروه دليل على أن الدين لا يؤخذ إلا بالحجة والدعوى إذا لم يكن عليها دليل فاسدة وهي ظلم وافتراء على الله وكذب بنسبة شركاء الله.
و * (إذ * اعتزلتموهم) * خطاب من بعضهم لبعض والأعتزال يشمل مفارقة أوطان قومهم ومعتقداتهم فهو اعتزال جسماني وقلبي، وما معطوف على المفعول في * (اعتزلتموهم) * أي واعتزلتم معبودهم و * (إلا الله) * استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله مع آلهتهم لاندراج لفظ الجلالة في قوله * (وما يعبدون إلا الله) *.
وذكر أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله. وقال هذا أيضا الفراء، ومنقطع إن كانوا لا يعرفون الله ولا يعبدونه لعدم اندراجه في معبوداتهم. وفي مصحف عبد الله * (وما يعبدون) * من دوننا انتهى وما في مصحف عبد الله فيما ذكر هارون إنما أريد به تفسير المعنى. وإن هؤلاء الفتية اعتزلوا قومهم * (وما يعبدون) * من دون الله وليس ذلك قرآنا لمخالفتها لسواد المصحف، ولأن المستفيض عن عبد الله بل هو متواتر ما ثبت في السواد وهو * (ما يعبدون إلا * الله) *. وقيل: * (وما يعبدون إلا الله) * كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله تعالى، فعلى هذا * (ما) * فيه و * (إلا) * استثناء مفرغ له العامل.
* (فأووا إلى الكهف) * أي اجعلوه مأوى لكم تقيمون فيه وتأوون إليه. وقوله * (ينشر) * فيه ما كانوا عليه من التوكل حيث أووا إلى كهف، ورتبوا على مأواهم إليه نشر رحمة الله عليهم وتهيئة رفقه تعالى بهم لأن من أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان لا يضيعه، والمعنى أنه تعالى سيبسط علينا رحمته ويهيء لنا ما نرتفق به في أمر عيشنا.
قال ابن عباس: * (الله لكم) * يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه، ويأتيكم باليسر والرفق واللطف. وقال ابن الأنباري: المعنى * (الله لكم) * بدلا من أمركم الصعب * (مرفقا) *. قال الشاعر:
* فليت لنا من ماء زمزم شربة * مبردة باتت على طهيان أي بدلا من ماء زمزم. وقال الزمخشري: إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم، وإما أن يخبرهم به نبي في عصرهم، وإما أن يكون بعضهم نبيا. وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجي والجعفي عنه، وأبو عمرو في رواية هارون بفتح الميم وكسر الفاء. وقرأ ابن أبي إسحاق وطلحة والأعمش وباقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء رفقا لأن جميعا في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة حكاه الزجاج وثعلب. ونقل مكي عن الفراء أنه قال: لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء، وخالفه أبو حاتم وقال: المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد. وقال أبو زيد: هو مصدر كالرفق جاء على مفعل. وقيل: هما لغتان فيما يرتفق به وإما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير، وعن الفراء أهل الحجاز يقولون * (مرفقا) * بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعا انتهى وأجاز معاذ فتح الميم والفاء.
* * (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال
(١٠٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 ... » »»