تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ١٠٢
لقائل ذلك أن يسلك مذهب الكوفيين في أن أفعل التفضيل ينتصب المفعول به، فالقوانس عندهم منصوب بأضرب نصب المفعول به، وإنما تأويله بضرب القوانس قول البصريين، ولذلك ذهب بعض النحويين إلى أن قوله * (أعلم من يضل) * من منصوبة بأعلم نصب المفعول به، ولو كثر وجود مثل.
واضرب منا بالسيوف القوانسا لكنا نقيسه ويكون معناه صحيحا لأن أفعل التفضيل مضمن معنى المصدر فيعمل بذلك التضمين، ألا ترى أن المعنى يزيد ضربنا بالسيوف القوانسا على ضرب غيرنا، ولما ذكر قوله ليعلم مشعرا باختلاف في أمرهم عقب بأنه تعالى هو الذي يقص شيئا فشيئا على رسوله صلى الله عليه وسلم) خبرهم * (بالحق) * أي على وجه الصدق، وجاء لفظ * (نحن نقص) * موازيا لقوله لنعلم.
ثم قال * (بربهم وزدناهم) * ففيه إضافة الرب وهو السيد والناظر في مصلحة عبيده، ولم يأت التركيب * (ءامنوا) * بناء للأشعار بتلك الرتبة وهي أنهم مربوبون له مملوكون. ثم قال: * (وزدناهم هدى) * ولم يأت التركيب وزادهم لما في لفظة نا من العظمة والجلال، وزيادته تعالى لهم * (هدى) * هو تيسيرهم للعمل الصالح والانقطاع إليه ومباعدة الناس والزهد في الدنيا، وهذه زيادة في الإيمان الذي حصل لهم. وفي التحرير * (زدناهم) * ثمرات * (هدى) * أو يقينا قولان، وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي، أو إنطاق الكلب لهم بأنه هو على ما هم عليه من الإيمان، أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون الدين به كله لله فآمنوا به قبل بعثه أقوال ملخصة من التحرير.
* (وربطنا على قلوبهم) * ثبتناها وقويناها على الصبر على هجرة الوطن والنعيم والفرار بالدين إلى غار في مكان قفر لا أنيس به ولا ماء ولا طعام، ولما كان الفزع وخوف النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن تشبه الربط، ومنه فلان رابط الجأش إذا كانت نفسه لا تتفرق عند الفزع والحرب. وقال تعالى: * (إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها) * والعامل في * (أن ربطنا) * أي ربطنا حين * (قاموا) *، ويحتمل القيام أن يكون مقامهم بين يدي الملك الكافر دقيانوس، فإنه مقام محتاج إلى الربط على القلب حيث صلبوا عليه وخلعوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته، ويحتمل أن يكون عبارة عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس كما يقال: قام فلان إلى كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد.
وقال الكرماني: * (قاموا) * على أرجلهم. وقيل: * (قاموا) * يدعون الناس سرا. وقال عطاء * (قاموا) * عند قيامهم من النوم قالوا وقيل: * (قاموا) * على إيمانهم. وقال صاحب الغنيان: * (إذ قاموا) * بين يدي الملك فتحركت هرة. وقيل: فأرة ففزع دقيانوس فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا * (ربنا رب * السماوات والارض) * وكان قومهم عباد أصنام، وما أحسن ما وحدوا الله بأن ربهم هو موجد السماوات والأرض المتصرف فيها على ما يشاء، ثم أكدوا هذا التوجيد بالبراءة من إله غيره بلفظ النفي المستغرق تأبيد الزمان على قول. واللام في * (لقد) * لام توكيد و * (إذا) * حرف جواب وجزاء، أي * (لقد قلنا) * لن ندعو من دونه إلها قولا * (شططا) * أي ذا شطط وهو التعدي والجور، فشططا نعت لمصدر محذوف إما على الحذف كما قدرناه، وإما على الوصف به على جهة المبالغة. وقيل: مفعول به بقلنا. وقال قتادة: * (شططا) * كذبا. وقال أبو زيد: خطأ.
* (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا وإذ) *.
ولما وحدوا الله تعالى ورفضوا ما دونه من الآلهة أخذوا في ذم قومهم وسوء فعلهم وأنهم لا حجة لهم في عبادة غير الله، ثم عظموا جرم من افترى على الله كذبا وهذه المقالة يحتمل أن قالوها في مقامهم بين يدي الملك تقبيحا لما هو وقومهم عليه وذلك أبلغ في التبري من عبادة الأصنام، وأفت في عضد الملك إذا اجترؤوا عليه بذم ما هو عليه، ويحتمل أن قالوا ذلك عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه و * (هؤلاء) * مبتدأ.
و * (قومنا) * قال الحوفي: خبر و * (اتخذوا) * في موضع الحال. وقال الزمخشري: وتبعه أبو البقاء: * (قومنا) * عطف بيان و * (اتخذوا) * في موضع الخبر. والضمير في * (من دونه) * عائد على الله
(١٠٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 ... » »»