تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ١٨٣
ولاية الشيطان كما قال في مقابل ذلك * (ورضوان من الله أكبر) * أي من النعيم السابق ذكره، وصدر كل نصيحة بقوله * (* يا أبت) * توصلا إليه واستعطافا.
وقيل: الولاية هنا كونه مقرونا معه في الآخرة وإن تباغضا وتبرأ بعضهما من بعض. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير إني أخاف أن تكون وليا في الدنيا للشيطان فيمسك في الآخرة عذاب من الرحمن. وقوله * (إنى أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان) * لا يعين أن العذاب يكون في الآخرة، بل يحتمل أن يحمل العذاب على الخذلان من الله فيصير مواليا للشيطان، ويحتمل أن يكون مس العذاب في الدنيا بأن يبتلى على كفره بعذاب في الدنيا فيكون ذلك العذاب سببا لتماديه على الكفر وصيرورته إلى ولاية الشيطان إلى أن يوافي على الكفر كما قال * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) * وهذه المناصحات تدل على شدة تعلق قلبه بمعالجة أبيه، والطماعية في هدايته قضاء لحق الأبوة وإشادا إلى الهدى (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم).
* (قال) * أي أبوه * (أراغب أنت عن الهتى ياإبراهيم * إبراهيم) * استفهم استفهام إنكار، والرغبة عن الشيء تركه عمدا وآلهته أصنامه، وأغلظ له في هذا الإنكار وناداه باسمه ولم يقابل * (* يا أبت) * بيا بني. قال الزمخشري: وقدم الخبر على المبتدأ في قوله * (وليا قال أراغب أنت عن الهتى) * لأنه كان أهم عنده وهو عنده أعني وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته، وإن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد. وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم) عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه انتهى. والمختار في إعراب * (أراغب أنت) * أن يكون راغب مبتدأ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام، و * (أنت) * فاعل سد مسد الخبر، ويترجح هذا الإعراب على ما أعربه الزمخشري من كون * (أراغب) * خبرا و * (أنت) * مبتدأ بوجهين:
أحدهما: أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ.
والثاني: أن لا يكون فصل بين العامل الذي هو * (أراغب) * وبين معموله الذي هو * (عن الهتى) * بما ليس بمعمول للعامل، لأن الخبر ليس هو عاملا في المبتدأ بخلاف كون * (أنت) * فاعلا فإن معمول * (أراغب) * فلم يفصل بين * (أراغب) * وبين * (عن الهتى) * بأجنبي إنما فصل بمعمول له.
ولما أنكر عليه رغبته عن آلهته توعده مقسما على إنفاذ ما توعده به إن لم ينته ومتعلق * (تنته) * محذوف واحتمل أن يكون عن مخاطبتي بما خاطبتني به ودعوتني إليه، وأن يكون * (لئن لم تنته) * عن الرغبة عن آلهتي * (لارجمنك) * جواب القسم المحذوف قبل * (لئن) *. قال الحسن: بالحجارة. وقيل: لأقتلنك. وقال السدي والضحاك وابن جريج: لأشتمنك.
قال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف * (واهجرنى) *؟ قلت: على معطوف عليه محذوف يدل عليه * (لارجمنك) * أي فاحذرني * (واهجرنى) * لأن * (لارجمنك) * تهديد وتقريع انتهى. وإنما احتاج إلى حذف ليناسب بين جملتي العطف والمعطوف عليه، وليس ذلك بلازم عند سيبويه بل يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة الإنشائية. فقوله * (واهجرنى) * معطوف على قوله * (لئن لم تنته لارجمنك) * وكلاهما معمول للقول. وانتصب * (مليا) * على الظرف أي دهرا طويلا قاله الجمهور والحسن ومجاهد وغيرهما، ومنه الملوان وهما الليل والنهار والملاوة بتثليث حركة الميم الدهر الطويل من قولهم: أمليت لفلان في الأمر إذا أطلت له. وقال الشاعر:
* فعسنا بها من الشباب ملاوة * فالحج آيات الرسول المحبب * وقال سيبويه: سير عليه ملي من الدهر أي زمان طويل. وقال ابن عباس وغيره: * (مليا) * معناه سالم سويا
(١٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 188 ... » »»