تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ١٨٢
انتهى. فالتخريج الأول يقتضي تصرف * (إذ) * وقد تقدم لنا أنها لا تتصرف، والتخريج الثاني مبني على أن كان لنا قصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلاف. والتخريج الثالث لا يصح لأن العمل لا ينسب إلا إلى لفظ واحد، أما أن ينسب إلى مركب من مجموع لفظين فلا، وجائز أن يكون معمولا لصديقا لأنه نعت إلا على رأي الكوفيين، ويحتمل أن يكون معمولا لنبيا أي منبأ في وقت قوله لأبيه ما قال، وأن التنبئة كانت في ذلك الوقت وهو بعيد.
وقرأ أبو البر هثيم إنه كان صادقا. وفي قوله * (* يا أبت) * تلطف واستدعاء بالنسب. وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر * (* يا أبت) * بفتح التاء وقد لحن هارون هذه القراءة، وتقدم الكلام على * (* يا أبت) * في سورة يوسف عليه السلام، وفي مصحف عبد الله وا أبت بواو بدل ياء، واستفهم إبراهيم عليه السلام عن السبب الحامل لأبيه على عبادة الصنم وهو منتف عنه السمع والبصر والإغناء عنه شيئا تنبيها على شنعة الرأي وقبحه وفساده في عبادة من انتف عنه هذه الأوصاف.
وخطب الزمخشري فقال: انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقل وانسلخ عن قضية التمييز كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك نصيحة ربه جل وعلا. حدث أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار ، تدخل مداخل الأبرار)، كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس، وأدنيه من جواري. وسرد الزمخشري بعد هذا كلاما كثيرا من نوع الخطابة تركناه.
و * (لم تعبد ما لا يسمع) * الظاهر أنها موصولة، وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة ومعمول * (يسمع) * و * (يبصر) * منسي ولا ينوي أي ما ليس به استماع ولا إبصار لأن المقصود نفي هاتين الصفتين دون تقييد بمتعلق. و * (شيئا) *. إما مصدر أو مفعول به، ولما سأله عن العلة في عبادة الصنم ولا يمكن أن يجد جوابا، انتقل معه إلى إخباره بأنه قد جاءه من العلم ما لم يأته ولم يصف أباه بالجهل إذ يغني عنه السؤال السابق. وقال * (من العلم) * على سبيل التبعيض أي شيء من العلم ليس معك، وهذه المحاورة تدل على أن ذلك كان بعدما نبىء، إذ في لفظ * (جاءنى) * تجدد العلم، والذي جاءه الوحي الذي أتى به الملك أو العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها أو توحيد الله وإفراده بالألوهية والعبادة أقوال ثلاثة * (فاتبعنى) * على توحيد الله بالعبادة وارفض الأصنام * (أهدك صراطا * مستقيما) * وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة. وانتقل من أمره باتباعه إلى نهيه عن عبادة الشيطان وعبادته كونه يطيعه في عبادة الأصنام ثم نفره عن عبادة الشيطان بأنه كان عصيا للرحمن، حيث استعصى حين أمره بالسجود لآدم فأبى، فهو عدو لك ولأبيك آدم من قبل. وكان لفظ الرحمن هنا تنبيها على سعة رحمته، وأن من هذا وصفه هو الذي ينبغي أن يعبد ولا يعصى، وإعلاما بشقاوة الشيطان حيث عصى من هذه صفته وارتكب من ذلك ما طرده من هذه الرحمة، وإن كان مختارا لنفسه عصيان ربه لا يختار لذريته من عصى لأجله إلا ما اختار لنفسه من عصيانهم.
* (إليك لاقتلك إنى أخاف) * قال الفراء والطبري * (أخاف) * أعلم كما قال * (فخشينا أن يرهقهما) * أي تيقنا، والأولى حمل * (أخاف) * على موضوعه الأصلي لأنه لم يكن آيسا من إيمانه بل كان راجيا له وخائفا أن لا يؤمن وأن يتمادى على الكفر فيمسه العذاب، وخوفه إبراهيم سوء العاقبة وتأدب معه إذ لم يصرح بلحوق العذاب به بل أخرج ذلك مخرج الخائف، وأتى بلفظ المس الذي هو ألطف من المعاقبة ونكر العذاب، ورتب على مس العذاب ما هو أكبر منه وهو
(١٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 177 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 ... » »»