تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٦ - الصفحة ١٧٢
المعنى. وقوله: ولم تقل أتيت المكان وآتانيه هذا غير مسلم بل يقال: أتيت المكان كما تقول: جئت المكان. وقال الشاعر:
* أتوا ناري فقلت منون أنتم * فقالوا الجن الجن قلت عموا ظلاما * ومن رأى النقل بالهمزة قياسا قال: أتانيه. وقرأ الجمهور * (فأجاءها) * أي ساقها. وقال الشاعر:
* وجار سار معتمدا إليكم * أجائته المخافة والرجاء * وأما فتحه الجيم الأعمش وطلحة. وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم. قال ابن عطية وشبيل بن عزرة فاجأها من المفاجأة. وقال صاحب اللوامح شبيل بن عزرة: فاجأها. فقيل: هو من المفاجأة بوزن فاعلها فبدلت همزتها بألف تخفيف على غير قياس، ويحتمل أن تكون همزة بين بين غير مقلوبة. وروي عن مجاهد كقراءة حماد عن عاصم. وقرأ ابن كثير في رواية * (المخاض) * بكسر الميم يقال مخضت الحامل مخاضا ومخاضا وتمخض الولد في بطنها: و * (إلى) * تتعلق بفأجاءها، ومن قرأ فاجأها من المفاجأة فتتعلق بمحذوف أي مستندة أي فيحال استنادها إلى النخلة، والمستفيض المشهور أن ميلاد عيسى عليه السلام كان بيت لحم، وأنها لما هربت وخافت عليه أسرعت به وجاءت به إلى بيت المقدس فوضعته على صخرة فانخفضت الصخرة له وصارت كالمهد وهي الآن موجودة تزار بحرم بيت المقدس، ثم بعد أيام توجهت به إلى بحر الأردن فعمدته فيه وهو اليوم الذي يتخذه النصارى ويسمونه يوم الغطاس وهم يظنون أن المياه في ذلك اليوم تقدست فلذلك يغطسون في كل ماء، ومن زعم أنها ولدته بمصر قال: بكورة اهناس.
قيل: ونخلة مريم قائمة إلى اليوم، والظاهر أن النخلة كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها. وقيل: إن الله أنبت لها نخلة تعلقت بها. وروي أنها بلغت إلى موضع كان فيه جذع نخلة يابس بال أصله مدود لا رأس له ولا ثمر ولا خضرة، وأل إما لتعريف الجنس أو الداخلة على الأسماء الغالبة كأن تلك الصحراء كان بها جذع نخلة معروف فإذا قيل * (جذع النخلة) * فهم منه ذلك دون غير. وأرشدها تعالى إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها ولظهور تلك الآيات منها فتستقر نفسها وتقر عينها، فاشتد بها الأمر هنالك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه * (قالت ياليتنى مت قبل هاذا) * وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها الشر في دينها وتعير فيغبنها ذلك، وهذا مباح وعلى هذا الحد تمنى عمر بن الخطاب وجماعة من الصالحين. وأما النهي عن ذلك فإنما هو لضر نزل بالبدن، وتقدم الخلاف من القراء في كسر الميم من مت وضمها في آل عمران، والنسي الشيء الحقير الذي من شأنه لا ينسى فلا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر وخرقة الطمث. وقرأ الجمهور بكسر النون وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح وهو ما من شأنه أن يذبح. وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وابن أبي ليلى وحمزة وحفص بفتح النون. وقرأ محمد بن كعب القرظي: نسأ بكسر النون والهمز مكان الياء وهي قراءة نون الأعرابي. وقرأ بكر بن حبيب السهمي ومحمد بن كعب أيضا نسأ بفتح النون والهمز وهو مصدر من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء، فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذي لا يرى ولا يتميز من الماء.
وقال ابن عطية: وقرأ بكر بن حبيب نسا بفتح النون والسين من غير همز بناه على فعل كالقبض
(١٧٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 167 168 169 170 171 172 173 174 175 176 177 ... » »»