تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٦٨
لأنهم كانوا كاذبين فيه، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم وبأنه موجود منهم، حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء، حيث جعل المستهزأ به على حرف التقرير.
وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته قاله: الزمخشري، وهو حسن. وتقديم بالله وهو معمول خبر كان عليها، يدل على جواز تقديمه عليها. وعن ابن عمر: رأيت قائل هذه المقالة يعني: إنما كنا نخوض ونلعب وديعة بن ثابت متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم) يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي يقول: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن؟) وذكر أن هذا المتعلق عبد الله بن أبي بن سلول، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك.
* (تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين) *: نهوا عن الاعتذار، لأنها اعتذارات كاذبة فهي لا تنفع. قد كفرتم أظهرتم الكفر بعد إيمانكم أي: بعد إظهار إيمانكم، لأنهم كانوا يسرون الكفر فأظهروه باستهزائهم، وجاء التقسيم بالعفو عن طائفة، والتعذيب لطائفة. وكان المنافقون صنفين: صنف أمر بجهادهم: (جاهد الكفار والمنافقين) وهم رؤساؤهم المعلنون بالأراجيف، فعذبوا بإخراجهم من المسجد، وانكشاف معظم أحوالهم. وصنف ضعفه مظهرون الإيمان وإن أبطنوا الكفر، لم يؤذوا الرسول فعفى عنهم، وهذا العذاب والعفو في الدنيا. وقيل: المعفو عنها من علم الله أنهم سيخلصون من النفاق ويخلصون الإيمان، والمعذبون من مات منهم على نفاقه. وقيل: المعفو عنه رجل واحد اسمه مخشى بن حمير بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء، كان مع الذين قالوا: (إنما كنا نخوض ونلعب) وقيل: كان منافقا ثم تاب توبة صحيحة. وقيل: إنه كان مسلما مخلصا، إلا أنه سمع كلام المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم، فعفا الله عنه، واستشهد باليمامة وقد كان تاب، ويسمى عبد الرحمن، فدعا الله أن يستشهدوا ويجهل أمره، فكان ذلك باليمامة ولم يوجد جسده.
وقرأ زيد بن ثابت، وأبو عبد الرحمن، وزيد بن علي، وعاصم من السبعة: إن نعف بالنون، نعذب بالنون طائفة. ولقيني شيخنا الأديب الحامل أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي بغرناطة فسألني قراءة من تقرأ اليوم على الشيخ أبي جعفر بن الطباغ؟ فقلت: قراءة عاصم، فأنشدني:
* لعاصم قراءة * لغيرها مخالفة * * إن نعف عن طائفة * منكم نعذب طائفة * وقرأ باقي السبعة: إن تعف تعذب طائفة، مبنيا للمفعول. وقرأ الجحدري: أن يعف بعذب مبنيا للفاعل فيهما، أي: أن يعف الله. وقرأ مجاهد: أن تعف بالتاء مبنيا للمفعول، تعذب مبنيا للمفعول بالتاء أيضا. قال ابن عطية: على تقدير إن تعف هذه الذنوب. وقال الزمخشري: الوجه التذكير لأن المسند إليه الظرف كما تقول: سير بالدابة، ولا تقول سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة فأنث لذلك، وهو غريب. والجيد قراءة العامة إن تعف عن طائفة بالتذكير، وتعذب طائفة بالتأنيث انتهى. مجرمين: مصرين على النفاق غير تائبين.
* (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون) *: بين تعالى أن ذكورهم وإناثهم ليسوا من المؤمنين كما قال تعالى: * (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم) * بل بعضهم من بعض في الحكم والمنزلة والنفاق، فهم على دين واحد. وليس المعنى على التبعيض حقيقة لأن ذلك معلوم ووصفهم بخلاف ما عليه المؤمنون من أنهم يأمرون بالمنكر وهو الكفر وعبادة غير الله والمعاصي، وينهون عن المعروف
(٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 ... » »»