تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٥٠٦
لأن كسر الميم إنما هو لاتباعها حركة الهمزة، فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الاتباع، بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقر الميم على حركتها. ولا تعلمون جملة حالية أي: غير عالمين. وقالوا: لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، أو شيئا مما قضى عليكم من السعادة أو القاوة، أو شيئا من منافعكم. والأولى عموم لفظ شيء، ولا سيما في سياق النفي. وقال وهب: يولد المولود حذر إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألما. ويحتمل وجعل أن يكون معطوفا على أخرجكم، فيكون واحدا في حيز خبر المبتدأ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار معطوفا على الجملة الابتدائية كاستئنافها.
والمراد بالسمع والأبصار والأفئدة إحساسها وإدراكها، فعبر عن ذلك بالآية. وقال أبو عبد الله الرازي ما معناه: إنما جمع الفؤاد جمع قلة، لأنه إنما خلق للمعارق الحقيقية اليقينية، وأكثر الخلق مشغولون بالأفعال البهيمية، فكان فؤادهم ليس بفؤاد، فلذلك ذكر في جمعه جمع القلة انتهى ملخصا. وهو قول هذياني، ولولا جلاله قائله وتسطيره في الكتب ما ذكرته، وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري: أنه من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة والقلة، إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء: شسوع في جمع شسع لا غير، فجرى ذلك المجرى انتهى. إلا أن دعوى الزمخشري أنه لم يجيء في جمع شسع إلا شسع لا غير، ليس بصحيح، بل جاء فيه جمع القلة قالوا: أشساع، فكان ينبغي له أن يقول: غلب شسوع. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وطلحة، والأعمش، وابن هرمز: ألم تروا بتاء الخطاب، وباقي السبعة بالياء. قال ابن عطية: واختلف عن الحسن، وعيسى الثقفي، وعاصم، وأبي عمرو. ولما ذكر تعالى مدارك العلم الثلاثة: السمع، والنظر، والعقل، والأولان مدرك المحسوس، والثالث مدرك المعقول، اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر، فإنه أغرب لما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها المتفاوت، كمشاهدته النيرات التي في الأفلاك. وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوان الطائر، فإن طيرانه في الهواء مع ثقل جسمه مما يعجب منه ويعتبر به. وتضمنت الآية أيضا ذكر مدرك العقل في كونه لا يسقط، إذ ليس تحته ما يدعمه، ولا فوقه ما يتعلق به، فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر على إمساكه وهو الله تعالى، كما قال تعالى: * (أو لم * يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان إنه بكل شىء بصير) * فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل. ومعنى مسخرات: مذللات، وبني للمفعول دلالة على أن له مسخرا. وقال أبو عبد الله الرازي: هذا دليل على كمال قدرة الله وحكمته، فإنه تعالى خلق الطائر خلقه معها يمكنه الطيران، أعطاه جناحا يبسطه مرة، ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء، وخلق الجو خلقه معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة، يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا انتهى. وكلامه منتزع من كلام القاضي قال: إنما أضاف الإمساك إلى نفسه، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات لأجلها تمكن الطائر من تلك الأفعال، فلما كان هو المتسبب لذلك صحت هذه الإضافة انتهى. والذي نقوله: إنه كان يمكنه أن يطير ولو لم يخلق له جناح، وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى، وأن الممسك له في جو السماء هو الله تعالى. وقد قام الدليل على أن جميع الأفعال كلها مخلوقة لله، وقام الدليل على أنه تعالى هو الفاعل المختار، فلا نقول: إنه لولا الجناح ولطف الجو ما أمكن الطيران، ولا لولا الآلات ما أمكن. وقال الزمخشري: ما يوافق كلامهما قال: مسخرات، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة، والأسباب المواتية لذلك. ثم أحسن أخيرا في قوله: ما يمسكهن في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إلا الله بقدرته انتهى. لآيات: جمع ولم يفرد، لما في ذلك من الآيات خفة الطائر التي جعلها الله فيه لأن يرتفع بها، وثقله الذي جعله فيه لأن ينزل، والفضاء الذي بين السماء والأرض، والإمساك الذي لله تعالى، أو جمع باعتبار ما في هذه الآية والتي قبلها وقال: لقوم يؤمنون، فإنهم هم الذين ينتفعون بالاعتبار، ولتضمن الآية أن المسخر والممسك لها هو الله، فهو إخبار منه
(٥٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 501 502 503 504 505 506 507 508 509 510 511 ... » »»