تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٥٠٩
إلى مسببها، وحكى صاحب الغنيان: يعرفونها في الشدة، ثم ينكرونها في الرخاء. وقيل: إنكارهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله. وقيل: يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم. والظاهر أن المراد من وأكثرهم موضوعه الأصلي. وقال الحسن: وكلهم: ما من أحد يقوم بواجب حق الشكر، فجعله من كفران النعمة. وظاهر أن الكفر هنا هو مقابل الإيمان. وقيل: أكثر أهل مكة، لأن منهم من أبى. وقيل: معنى الكافرون الجاحدون المعاندون، لأن فيهم من كان جاهلا لم يعرف فيعاند. وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى ثم؟ (قلت): الدلالة على أن إنكارهم مستبعد بعد حصول المعرفة، لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر.
* (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون هم يستعتبون * وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون * وإذا رءا الذين أشركوا شركآءهم قالوا ربنا هؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) *: لما ذكر إنكارهم لنعمة الله تعالى، ذكر حال يوم القيامة حيث لا ينفع فيه الإنكار على سبيل الوعيد لهم بذلك اليوم. وانتصب يوم بإضمار اذكر قاله: الحوفي، والزمخشري، وابن عطية، وأبو البقاء. وقال الزمخشري: أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه. وقال الطبري: هو معطوف على ظرف محذوف العامل فيه: ثم ينكرونها، أي ينكرونها اليوم. ويوم نبعث أي: ينكرون كفرهم، فيكذبهم الشهيد، والشهيد نبي تلك الأمة يشهد عليهم بإيمانهم وبكفرهم، ومتعلق الأذن محذوف. فقيل: في الرجوع إلى دار الدنيا. وقيل: في الكلام والاعتذار كما قال: * (هاذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم) * فيعتذرون أي بعد شهادة أنبيائهم عليهم، وإلا فقبل ذلك تجادل كل أمة عن نفسه. وجاء كلامهم في ذلك، ولكنها مواطن يتكلمون في بعضها ولا ينطقون في بعضها ولا هم يستعتبون أي: مزال عنهم العتب. وقال قوم: معناه لا يسألون أن يرجعوا عن ما كانوا عليه في الدنيا، فهذا استعتاب معناه طلب عتباهم، ونحوه قول من قال: ولا هم يسترضون أي: لا يقال لهم ارضوا ربكم، لأن الآخرة ليست بدار عمل قاله الزمخشري. وقال الطبري: معناه يعطون الرجوع إلى الدنيا فيقع منهم توبة وعمل.
قال الزمخشري: (فإن قلت): فما معنى ثم هذه؟ (قلت): معناها انهم يمنون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منه، وأنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقائ معذرة، ولا إدلاء بحجة انتهى. ولما كانت حالة العذاب في الدنيا مخالفة لحال الآخرة إذ من رأى العذاب في الدنيا رجا أن يؤخر عنه، وإن وقع فيه أن يخفف عنه، أخبر تعالى أن عذاب الآخرة لا يكون فيه تخفيف ولا نظرة. والظاهر أن جواب إذا قوله فلا يخفف، وهو على إضمار هو أي: فهو لا يخفف، لأنه لولا تقدير الإضمار لم تدخل الفاء، لأن جواب إذا إذا كان مضارعا لا يحتاج إلى دخول الفاء، سواء كان موجبا أم منفيا، كما قال تعالى: * (وإذا تتلى عليهم
(٥٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 504 505 506 507 508 509 510 511 512 513 514 ... » »»