تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٥٠٥
وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، يكون في أقرب وقت أوحاه. أن الله على كل شيء قدير، فهو يقدر على أن يقيم الساعة، ويبعث الخلق، لأنه بعض المقدورات. وقال ابن عطية: والمعنى على ما قال قتادة وغيره، وما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها: كن فلو اتفق أن يقف على ذلك شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر؟ أو هي أقرب من ذلك؟ فأو على هذا على بابها في الشك. وقيل: هي للتخيير انتهى. والشك والتخيير بعيدان، لأن هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة، فالشك مستحيل عليه. ولأن التخيير إنما يكون في المحظورات كقولهم: خذ من مالي دينارا أو درهما، أو في التكليفات كآية الكفارات: * (والذين يظاهرون) * وأو هنا للإبهام على المخاطب كقوله: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * وقوله: * (أتاها أمرنا ليلا أو نهارا) * وهو تعالى قد علم عددهم، ومتى يأتيها أمره، كما علم أمر الساعة، لكنه أبهم على المخاطب. وكون أو هنا للإبهام ذكره الزجاج هنا. وقال القاض: هذا لا يصح، لأن إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال: إنه تعالى يأتي بها في زمان يعني القاضي فيكون الإبهام على المخاطب في ذلك الزمان، وليس زمان تكليف. والذي نقوله: إن الإبهام وقع وقت الخطاب المتقدم على أمر الساعة، لا وقت الإتيان بها. وليس من شرط الإبهام على المخاطب في الإخبار عن شيء اتحاد زمان الإخبار وزمان وقوع ذلك الشيء، ألا ترى في قوله تعالى: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * كيف تأمر زمان الإخبار عن زمان وقوع ذلك الإرسال، ووجودهم مائة ألف أو يزيدون. وقال أبو عبد الله الرازي: لمح البصر انتقال الجسم بالطرف من أعلى الحدقة، وهي مؤلفة من أجزاء وتلك الأجزاء كثيرة، والزمان الذي يحصل فيه للمح مركب من آناء متعاقبة، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآناء، فلذلك قال: * (أو هو أقرب) * ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا هو لمح البصر ذكره، ثم قال: أو هو أقرب تنبيها على ما ذكرناه، وليس المراد طريقة الشك، والمراد بل هو أقرب انتهى. وفيه بعض تلخيص. وما ذكره من أن أو بمعنى بل، هو قول الفراء، ولا يصح لأن الإضراب على قسمين كلاهما لا يصح هنا. أما أحدهما: فإن يكون إبطالا للإسناد السابق، وأنه ليس هو المراد، وها مستحيل هنا، لأنه يؤول إلى إسناد غير مطابق. والثاني: أن يكون انتقالا من شيء إلى شيء من غير إبطال لذلك الشيء السابق، وهذا مستحيل هنا للتنافي الذي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر في السرعة، والإخبار بالأقربية، فلا يمكن صدقهما معا. وقال صاحب الغيان: وهذا وإن كان يعتبر إدراكه حقيقة، إلا أن المقصود المبالغة على مذهب العرب وأرباب النظم. وما أحسن قول الأبله الشاعر في المعنى:
* قال له البرق وقالت له الريح * جميعا وهما ما هما * * أأنت تجري معنا قال إن * نشطت أضحكتكما منكما * * أنا ارتداد الطرف قد فته * إلى المدى سبقا فمن أنتما * ولما ذكر تعالى أمر الساعة وأنها كائنة لا محالة، فكان في ذلك دلالة على النشأة الآخرة. وتقدم وصفهم بانتفاء العلم، ذكر تعالى النشأة الأولى وهي إخراجهم من بطون أمهاتهم غير عالمين شيئا، تنبيها على وقوع النشأة الآخرة. ثم ذكر تعال امتنانه عليهم بجعل الحواس التي هي سبب لإدراك الأشياء والعلم، ولما كانت النشأة الأولى، وجعل ما يعلمون به لهم من أعظم النعم عليهم قال: لعلكم تشكرون، وتقدم الكلام في أمهات في النساء. وقرأ حمزة: بكسر الهمزة، والميم هنا وفي النور، والزمر، والنجم، والكسائي بكسر الهمزة فيهن، والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم. قال أبو حاتم: حذف الهمزة رديء، ولكحن قراءة ابن أبي أصوب انتهى. وإنما كانت أصوب
(٥٠٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 500 501 502 503 504 505 506 507 508 509 510 ... » »»