ويتعذب بها، ثم لا يأتي من جهتها خير البتة. وعن قتادة أيضا وغيره: هذا مثل ضربه الله لنفسه وللوثن، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى، وهذا ليس كذلك لأنه قال: مثلا رجلين، فلا بد أن يكون عديل الأبكم الموصوف بتلك الصفات، ومقابله رجل موصوف بما يقابل تلك الصفات من النطق والقدرة والكفاية، ولكنه حذف المقابل لدلالة مقابله عليه، ثم قيل: هل يستوي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات، وهذا الناطق: ففي ذكر استوائهما أيضا دليل على حذف المقابل. ولما كان البكم هو المبدأ به من الأوصاف، وعنه تكون الأوصاف التي بعده قابلة في الاستواء بالنطق، وثمرته من الأمر بالعدل غيره وهو في نفسه على طريقة مستقيمة، فحيثما توجه صدر منه الخبر ونفع، وليس بكال على أحد. وقد تقرر في بداية العقول أن الأبكم العاجز لا يكون مساويا في العقل والشرف للناطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية، فلأن يحكم بأن الجماد لا يكون مساويا لرب العالمين في المعبودية أحرى وأولى. وكما قلنا في المثل السابق: لا يحتاج إلى تعيين المضروب بهما المثل، فكذلك هنا، فتعيين الأبكم بأبي جهل، والآمر بالعدل: بعمار، أو بأبي بن خلف، وعثمان بن مظعون، أو بهاشم بن عمرو بن الحرث كان يعادي الرسول صلى الله عليه وسلم) لا يصح إسناده.
وقرأ عبد الله، وعلقمة، وابن وثاب، ومجاهد، وطلحة يوجه بهاء واحدة ساكنة مبنيا، وفاعله ضمير يعود عليى مولاه، وضمير المفعول محذوف لدلالة المعنى عليه. ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الأبكم، ويكون الفعل لازما وجه بمعنى توجه، كان المعنى: أينما يتوجه. وعن عبد الله أيضا: توجهه بهاءين، بتاء الخطاب، والجمهور بالياء والهاءين. وعن علقمة وابن وثاب، وطلحة، يوجه بهاء، واحدة ساكنة، والفعل مبني للمفعول. وعن علقمة، وطلحة: يوجه بكسر الجيم وهاء واحدة مضمومة. قال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك فإن الهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارا من التضعيف، ولأن اللفظ به صعب مع التضعيف، أو لم يرد به الشرط، بل أمر هو بتقدير أينما هو يوجه، وقد حذف منه ضمير المفعول به، فيكون حذف الياء من لا يأت بخير على التخفيف نحو: يوم يأت. وإذا يسر انتهى. ولا يخرج أين عن الشرط أو الاستفهام. وقال أبو حاتم: هذه القراءة ضعيفة، لأن الجزم لازم انتهى. والذي توجه عليه هذه القراءة إن صحت أن أينما شرط حملت على إذا لجامع ما اشتركا فيه من الشرطية، ثم حذفت الياء من لا يأت تخفيفا، أو جزمه على توهم أنه نطق بأينما المهملة معملة لقراءة من قرأ أنه من يتقي ويصبر في أحد الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه، فهو فعل لازم لا متعد.
ثم ذكر تعالى أنه له غيب السماوات والأرض، وهو ما غاب عن العباد وخفي فيهما عنهم علمه. والظاهر اتصاله بقوله: * (إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * أخبر باستئثاره بعلم غيب السماوات والأرض، بكمال قدرته على الإتيان بالساعة التي تنكرونها في لمحة البصر أو أقرب، والمعنى بهذا الإخبار: أن الآلهة التي تعبدونها منتف عنها هذان الوصفان اللذان للإله وهما: العلم المحيط بالمغيبات، والقدرة البالغة التامة. ومن ذكر أن قوله: ومن يأمر بالعدل هو الله تعالى، ذكر ارتباط هذه الجملة بما قبلها بأن من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم هو الكامل في العلم والقدرة، فبين ذلك بهذه الجملة. قيل: والغيب هنا ما لا يدرك بالحس، ولا يفهم بالعقل. وقال المفضل: ما غاب عن الخلق هو في قبضته لا يعزب عنه. وقيل: هو ما في قوله: * (إن الله عنده علم الساعة) * وقال الزمخشري: أو أراد بغيب السماوات والأرض يوم القيامة، على أن علمه غائب عن أهل السماوات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم. قيل: لما كانت الساعة آتية ولا بد، جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها أي: يقول للشيء كن فيكون. وقيل: هذا تمثيل للقرب كما تقول: ما السنة إلا لحظة. وقال الزمخشري: هو عند الله وإن تراخى، كما يقولون أنتم في الشيء التي تستقربونه: كلمح البصر، أو هو أقرب إذا بالغتم في استقرابه ونحوه قوله: * (ويستعجلونك بالعذاب) * * (ولن يخلف الله وعده) * * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * أي هو عنده دان، وهو عندكم بعيد. وقيل: المعنى أن إقامة الساعة وإماتة الأحياء