تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٥١٥
* (ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولاكن يضل من يشآء ويهدى من يشآء ولتسئلن عما كنتم تعملون تعملون * ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) *: هذه المشيئة مشيئة اختيار على مذهب أهل السنة، ابتلى الناس بالأمر والنهي ليذهب كل إلى ما يسر له، وذلك لحق الملك لا يسأل عما يفعل. ولو شاء لكانوا كلهم على طريق واحدة، إما هدى، وإما ضلالة، ولكنه فرق، فناس للسعادة، وناس للشقاوة. فخلق الهدى والضلال، وتوعد بالسؤال عن العمل، وهو سؤال توبيخ لا سؤال تفهم، وسؤال التفهم هو المنفى في آيات. ومذهب المعتزلة أن هذه المشيئة مشيئة قهر. قال العسكري: المراد أنه قادر على أن يجمعكم على الإسلام قهرا، فلم يفعل ذلك، وخلقكم ليعذب من يشاء على معصيته، ويثيب من يشاء على طاعته، ولا يشاء شيئا من ذلك إلا أن يستحقه. ويجوز أن يكون المعنى: أنه لو شاء خلقكم في الجنة، ولكن لم يفعل ذلك ليثيب المطيعين منكم، ويعذب العصاة.
ثم قال: ولتسألن عما كنتم تعملون يعني: سؤال المحاسبة والمجازاة. وفيه دليل على أن الإضلال في الآية العقاب، ولو كان الإضلال عن الدين لم يكن لسؤاله إياهم معنى. وقال الزمخشري: أمة واحدة حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار، وهو قادر على ذلك، ولكن الحكمة اقتضت أن يضل من يشاء، وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه، ويهدي من يشاء وهو أن يلطف بمن علم الله أنه يختار الإيمان، يعني: أنه بنى الأمر على الاختيار، وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب، ولم ينبه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك، وحققه بقوله: ولتسألن عما كنتم تعملون. ولو كان هذا المضطر إلى الضلال والاهتداء، لما أثبت لهم عملا يسألون عنه انتهى. قالوا: كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا تهمما بذلك، ومبالغة في النهي عنه لعظم موقعه في الدين. قال ابن عطية: وتردده في معاملات الناس. وقال الزمخشري: تأكيدا عليهم، وإظهار العظم ما يرتكب منه انتهى. وقيل: إنما كرر لاختلاف المعنيين: لأن الأول نهى فيه عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة، وهنا نهي عن الدخل في الإيمان التي يراد بها اقتطاع حقوق، فكأنه قال: دخلا بينكم لتتوصلوا بها إلى قطع أموال المسلمين، وأقول: لم يتكرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا، وإنما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلا معللا بشيء خاص وهو: أن تكون أمة هي أربى من أمة. وجاء النهي بقوله: ولا تتخذوا، استئناف إنشاء عن اتخاذ الإيمان دخلا على العموم، فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة، وقطع الحقوق المالية، وغير ذلك. وانتصب فتزل على جواب النهي، وهو استعارة لمن كان مستقيما ووقع في أمر عظيم وسقط، لأن القدم إذا زلت تقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر. وقال كثير: فلما توافينا ثبت وزلت. قال الزمخشري: فنزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها. فإن قلت: لم وجدت القدم ونكرت؟ قلت: لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة انتهى؟ ونقول: الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد، فإذا لوحظ فيه المجموع كان الإسناد معتبرا فيه الجمعية، وإذا لوحظ كل فرد فرد كان الإسناد مطابقا للفظ الجمع كثيرا، فيجمع ما أسند إليه، ومطابقا لكل فرد فرد فيفرد كقوله: * (وأعتدت لهن) * أفرد متكأ لما كان لوحظ في قوله لهن معنى لكل واحدة، ولو جاء مرادا به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع المتكأ، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قول الشاعر:
(٥١٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 510 511 512 513 514 515 516 517 518 519 520 ... » »»