يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرج من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمنا انتهى. ودعا إبراهيم أولا بما هو على طاعة الله تعالى، وهو كون محل العابد أمنا لا يخاف فيه، إذ يتمكن من عبادة الله تعالى، ثم دعا ثانيا بأن يجنب هو وبنوه من عبادة الأصنام. ومعنى واجنبني وبني: أدمني وإياهم على اجتناب عبادة الأصنام. وأراد بقوله: وبنى أولاده، من صلبه الأقرباء. وأجابه الله تعالى فجعل الحرم آمنا، ولم يعبد أحد من بنيه الأقرباء لصلبه صنما. قال سفيان بن عيينة: وقد سئل، كيف عبدت العرب الأصنام؟ قال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنما وكانوا ثمانية، إنما كانت لهم حجارة ينصبوها ويقولون: حجر، فحيث ما نصبوا حجرا فهو بمعنى البيت، فكانوا يدورن بذلك الحجر ويسمونه الدوار انتهى.
قال ابن عطية: وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه، ومن حصل في رتبته فكيف يخاف أن يعبد صنما؟ لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدي بها في الخوف وطلب الخاتمة. وكرر النداء استعطافا لربه تعالى، وذكر سبب طلبه: أن يجنب هو وبنوه عبادة الأصنام بقوله: إنهن أضللن كثيرا من الناس، إذ قد شاهد أباه وقومه يعبدون الأصنام. ومعنى أضللنا: كنا سببا لإضلال كثير من الناس، والمعنى: أنهم ضلوا بعبادتها، كما تقول: فتنتهم الدنيا أي: افتتنوا بها، واغتروا بسببها. وقرأ الجحدري، وعيسى الثقفي: وأجنبني من أجنب، وأنث الأصنام لأنه جمع ما لا يعقل يخبر عنه أخبار المؤنث كما تقول: الأجذاع انكسرت. والأخبار عنه أخبار جمع العاقل المذكر بالواو ومجاز نحو قوله: فقد ضلوا كثيرا. فمن تبعني أي: على ديني وما أنا عليه، فإنه مني. جعله لفرط الاختصاص به وملابسته كقوله: (من غشنا فليس منا) أي ليس بعض المؤمنين تنبيها على تعظيم الغش بحيث هو يسلب الغاش الإيمان، والمعنى: أن الغش ليس من أوصاف أهل الإيمان. ومن عصاني، هذا فيه طباق معنوي، لأن التبعية طاعة فقوله: فإنك غفور رحيم. قال مقاتل: ومن عصاني فيحادون الشرك. وقال الزمخشري: تغفر لي ما سلف من العصيان إذا بدا لي فيه واستحدث الطاعة. قال ابن عطية: ومن عصاني ظاهره بالكفر لمعادلة قوله: فمن تبعني فإنه مني، وإذا كان كذلك فقوله: فإنك غفور رحيم معناه حين يؤمنوا، لأنه أراد أن الله يغفر لكل كافر، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب صلى الله عليه وسلم). وكذلك قال نبي الله عيسى عليه السلام: * (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) *.
* (ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلواة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) *: كرر النداء رغبة في الإجابة وإظهارا للتذلل، والالتجاء إلى الله تعالى. وأتى بضمير جماعة المتكلمين، لأنه تقدم ذكره. وذكر بنيه في قوله: واجنبني وبنى، ومن ذريتي هو إسماعيل ومن ولد منه. وذلك هاجر لما ولدت إسماعيل غارت منها سارة، فروى أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل، فجاء في يوم واحد من الشام إلى مكة، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك، وركب منصرفا من يومه ذلك، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى، فلما ولي دعا بما في ضمن هذه الآية. وأما كيفية بقاء هاجر وما جرى لها ولإسماعيل هناك ففي كتاب البخاري والسير وغيره. ومن للتبعيض، لأن إسحاق كان في الشام، والوادي ما بين الجبلين، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء، وإنما قال: غير ذي زرع، لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقها الماء، وإنما نظر النظر البعيد فقال: غير ذي زرع، ولو لم يعلم ذلك من الله تعالى لقال: غير ذي ماء، على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك. قال ابن عطية: وقد يقال إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء الذي لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث وجد الماء، فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء. وقال الزمخشري: بواد هو وادي مكة، غير ذي ذرع: لا يكون فيه شيء من زرع قط كقوله: * (قرءانا عربيا غير ذى عوج) * بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا استقامة لا غير انتهى. واستعمل قط وهي ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولا لقوله: لا يكون، وليس هو ماضيا، وهو مكان أبدا الذي يستعمل مع غير الماضي من المستقبلات. والظاهر أن قوله: عند بيتك