تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣٢٠
سنخادعه ونستميله في رفق إلى أن يتركه يأتي معنا إليك، ثم أكدوا ذلك الوعد بأنهم فاعلو ذلك لا محالة، لا نفرط فيه ولا نتوانى. وقرأ الأخوان وحفص: لفتيانه، وباقي السبعة لفتيته، فالكثرة على مراعاة المأمورين، والقلة على مراعاة المتأولين. فهم الخدمة الكائلون أمرهم بجعل المال الذي اشتروا به الطعام في رحالهم مبالغة في استمالتهم لعلهم يعرفونها أي: يعرفون حق ردها، وحق التكرم بإعطاء البدلين فيرغبون فينا إذا انقلبوا إلى أهلهم، وفرغوا ظروفهم. ولعلهم يعرفونها تعليق بالجعل، ولعلهم يرجعون تعليق بترجي معرفة البضاعة للرجوع إلى يوسف. قيل: وكانت بضاعتهم النعال والأدم. وقيل: يرجعون متعد، فالمعنى لعلهم يردون البضاعة. وقيل: تخوف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به. وقيل: علم أن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة، لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها. وقيل: جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك، ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة. قال ابن عطية: ويظهر أن ما فعله يوسف من صلتهم وجبرهم في تلك الشدة كان واجبا عليه، هذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة.
* (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يأبانا * أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون * هل امنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الرحمين) *: أي: رجعوا من مصر ممتارين، بادروا بما كان أهم الأشياء عندهم من التوطئة لإرسال أخيهم معهم، وذلك قبل فتح متاعهم وعلمهم بإحسان العزيز إليهم من رد بضاعتهم. وأخبروا بما جرى لهم مع العزيز الذي على إهراء مصر، وأنهم استدعى منهم العزيز أن يأتوا بأخيهم حتى يتبين صدقهم أنهم ليسوا جواسيس، وقولهم: منع منا الكيل، إشارة إلى قول يوسف: فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي. ويكون منع يراد به في المستأنف، وإلا فقد كيل لهم. وجاؤوا أباهم بالميرة، لكن لما أنذروا بمنع الكيل قالوا: منع. وقيل: أشاروا إلى بعير بنيامين الذي منع من الميرة، وهذا أولى بحمل منع على الماضي حقيقة، ولقولهم: فأرسل معنا أخانا نكتل، ويقويه قراءة يكتل بالياء أي: يكتل أخونا، فإنما منع كيل بعيره لغيبته، أو يكن سببلا للاكتيال. فإن امتناعه في المستقبل تشبيه، وهي قراءة الأخوين. وقرأ باقي السبعة بالنون أي: نرفع المانع من الكيل، أو نكتل من الطعام ما نحتاج إليه، وضمنوا له حفظه وحياطته. قال: هل آمنكم، هذا توقيف وتقرير. وتألم من فراقه بنيامين، ولم يصرح بمنعه من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة. وشبه هذا الائتمان في ابنه هذا بائتمانه إياهم في حق يوسف. قلتم فيه: وإنا له لحافظون، كما قلتم في هذا، فأخاف أن تكيدوا له كما كدتم لذلك، لكن يعقوب لم يخف عليه كما خاف على يوسف، واستسلم لله وقال: فالله خير حفظا، وقرأ الأخوان وحفص: حافظا اسم فاعل، وانتصب حفظا وحافظا على التمييز، والمنسوب له الخير هو حفظ الله، والحافظ الذي من جهة الله. وأجاز الزمخشري أن يكون حافظا حالا، وليس بجيد، لأن فيه تقييد خير بهذه الحال. وقرأ الأعمش: خير حافظ على الإضافة، فالله تعالى متصف بالحفظ وزيادته على كل حافظ. وقرأ أبو هريرة: خير الحافظين، كذا نقل الزمخشري. وقال ابن عطية: وقرأ ابن مسعود، فالله خير حافظا وهو خير الحافظين. وينبغي أن تجعل هذه الجملة تفسيرا لقوله: فالله خير حافظا، لا أنها قرآن. وهو أرحم الراحمين اعتراف بأن الله هو ذو الرحمة الواسعة، فأرجو منه حفظه، وأن لا يجمع على مصيبته ومصيبة أخيه.
2 (* (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا ياأبانا ما نبغى هاذه بضاعتنا
(٣٢٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 315 316 317 318 319 320 321 322 323 324 325 ... » »»