تقلب. وفي الكلام حذف التقدير: فسمع الملك كلام النسوة وبراءة يوسف مما رمى به، فأراد رؤيته وقال: ائتنوني به، فلما كلمه. والظاهر أن الفاعل بكلمه هو ضمير الملك أي: فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته. ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير يوسف أي: فلما كلم يوسف الملك، ورأى الملك حسن منطقه بما صدق به الخبر الخبر، والمرء مخبوء تحت لسانه، قال: إنك اليوم لدينا مكين أي: ذو مكانة ومنزلة، أمين مؤتمن على كل شيء. وقيل: أمين آمين، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام، وبالأمن يحط من إكرام يوسف. ولما وصفه الملك بالتمكن عنده، والأمانة، طلب من الأعمال ما يناسب هذين الوصفين فقال: اجعلني على خزائن الأرض أي: ولني خزائن أرضك إني حفيظ أحفظ ما تستحفظه، عليم بوجوه التصرف. وصف نفسه بالأمانة والكفاءة وهما مقصود الملوك ممن يولونه، إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة، ولا خلل معهما لقائل. وقيل: حفيظ للحساب، عليم بالألسن. وقيل: حفيظ لما استودعتني، عليم بسني الجوع. وهذا التخصيص لا وجه له، ودل إثناء يوسف على نفسه أنه يجوز للإنسان أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره، ولا يكون ذلك التزكية المنهي عنها. وعلى جواز عمل الرجل الصالح للرجل التاجر بما يقتضيه الشرع والعدل، لا بما يختاره ويشتهيه مما لا يسيغه الشرع، وإنما طلب يوسف هذه الولاية ليتوصل إلى إمضاء حكم الله، وإقامة الحق، وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن غيره لا يقوم مقامه في ذلك. فإن كان الملك قد أسلم كما روى مجاهد فلا كلام، وإن كان كافرا ولا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكينه، فللمتولي أن يستظهر به. وقيل: كان الملك يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع. وما زال قضاة الإسلام يتولون القضاء من جهة من ليس بصالح، ولولا ذلك لبطلت أحكام الشرع، فهم مثابون على ذلك إذا عدلوا. وكذلك أي: مثل ذلك التمكين في نفس الملك مكنا ليوسف في أرض مصر، يتبوأ منها حيث يشاء أي: يتخذ منها مباءة ومنزلا كل مكان أراد، فاستولى على جميعها، ودخلت تحت سلطانه. روي أن الملك توجه بتاجه، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه، ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت، فجلس على السرير، ودانت له الملوك، وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعد، فزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما طلبت؟ فوجدها عذراء، لأن العزيز كان لا يطأ، فولدت له ولدين: افراثيم، ومنشأ. وأقام العدل بمصر، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم، ثم استرقهم جميعا فقالوا: والله ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم منه فقال للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني، فما ترى؟ قال: الرأي رأيك قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم. وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس، وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا، واحتبس بنيامين. وقرأ الحسن وابن كثير: بخلاف عنهم أبو جعفر وشيبه ونافع: حيث نشاء بالنون، والجمهور بالياء. والظاهر أن قراءة الياء يكون فاعل نشاء ضميرا يعود على يوسف، ومشيئته معذوقة بمشيئة الله، إذ هو نبيه ورسوله. وإما أن يكون الضمير عائدا على الله أي: حيث يشاء الله، فيكون التفاتا. نصيب برحمتنا أي: بنعمتنا من الملك والغني وغيرهما، ولا نضيع في الدنيا أجر من أسن. ثم ذكر أن أجر الآخرة خير، لأنه الدائم الذي لا يفنى. وقال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق، وتلا هذه الآية. وفي الحديث ما يوافق ما قال سفيان، وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته العظيمة في الدنيا.
* (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون * ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين * فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم