تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣١٦
القصة، وقص الحديث حتى يتبين له براءته بيانا مكشوفا يتميز فيه الحق من الباطل. ومن كرم يوسف عليه السلام أنه لم يذكر زوج العزيز مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات الأيدي. وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية النسوة بضم النون، وقرأت فرقة اللاي بالياء، وكلاهما جمع التي. إن ربي أي: إن الله بكيدهن عليم. أراد أن كيدهن عظيم لا يعلمه إلا الله لبعد عوده، واستشهد بعلم الله على أنهن كدنه، وأنه بريء مما قذف به. أو أراد الوعيد لهن، أو هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالرب العزيز مولاه، ففي ذلك استشهاد به وتقريع. وما ذكره ابن عطية من هذا الاحتمال لا يسوغ، والضمير في بكيدهن عائد على النسوة المذكورات لا للجنس، لأنها حالة توقيف على ذنب. قال: ما خطبكن في الكلام حذف تقديره: فرجع الرسول فأخبره بما قال يوسف، فجمع الملك النسوة وامرأة اعزيز وقال لهن: ما خطبكن؟ وهذا استدعاء منه أن يعلمنه بالقصة، ونزه جانب يوسف بقوله: إذ راودتن يوسف عن نفسه، ومراودتهن له قولهن ليوسف: أطع مولاتك. وقال الزمخشري: هل وجدتن منه ميلا لكن قلن: حاش لله تعجبا من عفته، وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة، ومن نزاهته عنها. وقال ابن عطية: أجاب النساء بجواب جيد تظهر منه براءة أنفسهن جملة، وأعطين يوسف بعض براءة، وذلك أن الملك لما قررهن أنهن راودته قلن جوابا عن ذلك: حاش لله. ويحتمل أن يكون قولهن: حاش لله، في جهة يوسف عليه السلام. وقولهن ما علمنا عليه من سوء ليس بإبراء تام، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهن، فلما سمعت امرأة العزيز مقالتهن وحيدتهن عن الوقوع في الخزي قالت: الآن حصحص الحق. وقرئ حصحص على البناء للمفعول، أقرت على نفسها بالمراودة، والتزمت الذنب، وأبرأت يوسف البراءة التامة.
* (ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى كيد الخائنين * وما أبرىء نفسى إن النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم) *: الظاهر أن هذا من كلام امرأة العزيز وهو داخل تحت قوله: قالت. والمعنى: ذلك الإقرار والاعتراف بالحق، ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته والذب عنه، وأرميه بذنب هو منه بريء. ثم اعتذرت عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات بقولها: وما أبرىء نفسي، والنفوس مائلة إلى الشهوات إمارة بالسوء. وقال الزمخشري: وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة فإني قد خنته حين قذفته وقلت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن، وأودعته السجن تريد الاعتذار لما كان منها أن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفسا رحمها الله بالعمصة إن ربي غفور رحيم، استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. ومن ذهب إلى أن قوله: ذلك ليعلم إلى آخره، من كلام يوسف يحتاج إلى تكلف ربط بينه وبين ما قبله، ولا دليل يدل على أنه من كلام يوسف. فقال ابن جريج: في الكلام تقديم وتأخير، وهذا الكلام متصل بقول يوسف: إن ربي بكيدهن عليم، وعلى هذا فالإشارة بقوله ذلك إلى إلقائه في السجن والتماسه البراءة أي: هذا العلم سيدي أني لم أخنه. وقال بعضهم: إنما قال يوسف هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز كلامها إلى قولها: وإنه لمن الصادقين، فالإشارة على هذا إلى قولها وصنع الله فيه، وهذا يضعف، لأنه يقتضي حضوره مع النسوة عند الملك. فكيف يقول الملك بعد ذلك: ائتوني به؟ وفسر الزمخشري الآية أولا على أنها من كلام يوسف فقال: أي ذلك التنبت والتشمر لظهور البراءة، ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في حرمته، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها في أمانة زوجها، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه. ويجوز أن يكون توكيدا لأمانته، وأنه لو كان خائنا لما هدى الله كيده، ولا سدده، ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه لئلا يكون لها مزكيا، ولحالها في الأمانة معجبا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم): (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته. فقال: وما أبرىء نفسي من الزلل، وما أشهد لها بالبراءة الكلية، ولا أزكيها، إن النفس لأمارة بالسوء. أراد
(٣١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 311 312 313 314 315 316 317 318 319 320 321 ... » »»