تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣١٧
الجنس أي: هذا الجنس يأمر بالسوء، ويحمل على ما فه من الشهوات انتهى. وفيه تكثير وتحميل للفظ ما ليس فيه، ويزيد على عادته في خطابته. ولما أحس الزمخشري بأشكال قول من قال: إنه من كلام يوسف قال: (فإن قلت): كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك؟ (قلت): كفى بالمعنى دليلا قائدا إلى أن يجعل من كلامه، ونحوه قوله: قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون؟ وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم انتهى. وهذا ليس كما ذكر، إذ لا يتعين في هذا التركيب أن يكون من كلام فرعون، بل هو من كلام الملأ تقدمهم فرعون إلى هذه المقالة، فقالوا ذلك بعض لبعض، فيكون في قول فرعون: يريد أن يخرجكم خطابا للملأ من فرعون، ويكون في هذا التركيب خطابا من بعضهم لبعض، ولا يتنافى اجتماع المقالتين. وبالغيب يحتمل أن يكون حالا من الفاعل أي: غائبا عنه، أو من المفعول أي: غائبا عني، أو ظرفا أي بمكان الغيب. والظاهر أن إلا ما رحم ربي استثناء متصل من قوله: لأمارة بالسوء، لأنه أراد الجنس بقوله: إن النفس، فكأنه قال: إلا النفس التي رحمها ربي فلا تأمر بالسوء، فكون استثناء من الضمير المستكن في أمارة. ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة المحذوف إذ التقدير: لأمارة بالسوء صاحبها، إلا الذي رحمه ربي فلا تأمره بالسوء. وجوزوا أن يكون مستثنى من ظرف الزمان المفهوم عمومه من ما قبل الاستثناء، وما ظرفية إذ التقدير: لأمارة بالسوء مدة بقائها إلا وقت رحمة الله العبد وذهابه بها عن اشتهاء المعاصي. وجوزوا أن يكون استثناء منقطعا، وما مصدرية. وذكر ابن عطية أنه قول الجمهور أي: ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة.
* (وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين * قال اجعلنى على خزائن الارض إنى حفيظ عليم * وكذالك مكنا ليوسف فى الارض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين * ولاجر الاخرة خير للذين ءامنوا وكانوا يتقون) *: روي أن الرسول جاءه فقال: أجب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات. وكتب على باب السجن: هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثيابا جددا، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك يخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ فقال: لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال: أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال: رأيت بقرات سمان فوصف لونهن وأحوالهن، وما كان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفا، وقال له: من حفظك أن تجعل الطعام في الاهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من المكنون ما لم يجتمع لأحد قبلك. وكان يوسف قصد أولا بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فكان استدعاء الملك إياه أولا بسبب علم الرؤيا، فلذلك قال: ائتوني به فقط، فلما فعل يوسف ما فعل فظهرت أمانته وصبره وهمته وجوده نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه بأول طلب عظمت منزلته عنده، فطلبه ثانيا ومقصوده: استخلاصه لنفسه. ومعنى أستخلصه: أجعله خالصا لنفسي وحاصا بي، وسمى الله فرعون مصر ملكا إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، فلو كان حيا لكان حكما له إذا قيل لكافر ملك أو أمير، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل عظيم الروم ولم يقل ملكا ولا أميرا، لأن ذلك حكم. والجواب مسلم وتسلموا. وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيف ما
(٣١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 312 313 314 315 316 317 318 319 320 321 322 ... » »»