تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣١٩
عندى ولا تقربون * قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون * وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم فى رحالهم لعلهم * يعرفونهم * إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون) *: أي جاؤوا من القريات من أرض فلسطين بأرش الشام. وقيل: من الأولاج من ناحية الشعب إلى مصر ليمتاروا منها، فتوصلوا إلى يوسف للميرة، فعرفهم لأنه فارقهم وهم رجال، ورأى زيهم قريبا من زيهم إذ ذاك، ولأن همته كانت معمورة بهم وبمعرفتهم، فكان يتأمل ويتفطن. وروي أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم، وأمر بإنزالهم. ولذلك قال الحسن: ما عرفهم حتى تعرفوا له، وإنكارهم إياه كان. قال الزمخشري: لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة، ولاعتقادهم أنه قد هلك، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حالته التي فارقوه عليها طريحا في البئر مشريا بدراهم معدودة، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم. ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر منه المعروف. وقيل: رأوه على زي فرعون عليه ثياب الحرير جالسا على سرير في عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج، فما خطر لهم أنه هو. وقيل: ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج.
ولما جهزهم بجهازهم، وكان الجهاز الذي لهم هو الطعام الذي امتاروه. وفي الكلام حذف تقديره: وقد كان استوضح منهم أنهم لهم أخ قعد عند أبيهم. روي أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم، فباحثهم بأن قال لهم ترجمانه: أظنكم جواسيس، فاحتاجوا إلى التعريف بأنفسهم فقالوا: نحن أبناء رجل صديق، وكنا اثنى عشر، ذهب منا واحد في البرية، وبقي أصغرنا عند أبينا، وجئنا نحن للميرة، وسقنا بعير الباقي منا وكانوا عشرة ولهم أحد عشر بعيرا. فقال لهم يوسف: ولم تخلف أحدكم؟ قالوا: المحبة أبينا فيه قال: فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم، وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين؟ وأورد الزمخشري هذا القصص بألفاظ أخر تقارب هذه في المعنى، وفي آخره قال: فمن يشهد لكم؟ إنكم لستم بعيون، وإن الذي تقولون حق. قالوا: إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد يشهد لنا. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو حمل سالة من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيا في يوسف، فخلفوه عنده، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم. وقيل: لم يرتهن أحدا، وروي غير هذا في طلب الأخ من أبيهم. قيل: كان يوسف ملثما أبدا سترا لجماله، وكان ينقر في الصواع فيفهم من طنينه صدق الحديث أو كذبه، فسئلوا عن أخبارهم، فكلما صدقوا قال لهم: صدقتم، فلما قالوا: وكان لنا أخ أكله الذئب أطن يوسف الصواع وقال: كذبتم، ثم تغير لهم وقال: أراكم جواسيس، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم. وقرئ: بجهازهم بكسر الجيم، وتنكر أخ، ولم يقل بأخيكم وإن كان قد عرفه وعرفهم مبالغة في كونه لا يريد أن يتعرف لهم، ولا أنه يدري من هو. ألا ترى فرقا بين مررت بغلامك، ومررت بغلام لك؟ إنك في التعريف تكون عارفا بالغلام، وفي التنكير أنت جال به. فالتعريف يفيد فرع عهد في الغلام بينك وبين المخاطب، والتنكير لا عهد فيه البتة. وجائز أن نخبر عمن تعرفه أخبار النكرة فتقول: قال رجل لنا وأنت تعرفه لصدق إطلاق النكرة على المعرفة، ثم ذكر ما يحرضهم به على الإتيان بأخيهم بقوله: ألا ترون إني أوف الكيل وأنا خير المنزلين أي المضيفين؟ يعني في قطره وفي زمانه يؤنسهم بذلك ويستميلهم، ثم توعدهم إن لم يأتوا به إليه بحرمانهم من الميرة في المستقبل. واحتمل قوله: ولا تقربون، أن يكون نهيا، وأن يكون نفيا مستقلا ومعناه النهي. وحذفت النون وهو مرفوع، كما حذفت في فبم تبشرون أن يكون نفيا داخلا في الجزاء معطوفا على محل فلا كيل لكم عندي، فيكون مجزوما والمعنى: أنهم لا يقربون له بكذا ولا طاعة. وظاهر كل ما فعله يوسف عليه السلام معهم أنه بوحي، وإلا فإنه كان مقتضى البر أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه، لكن الله تعالى أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته: ولتتفسر الرؤيا الأولى قالوا: سنراود عنه أباه أي:
(٣١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 314 315 316 317 318 319 320 321 322 323 324 ... » »»