تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣٢
جبريل فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم، فحفظه التوراة، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفا فقالوا: ما جمع الله تعالى التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه، ونقلوا حكايات في ذلك. وظاهر قول النصارى المسيح ابن الله نبوة النسل كما قالت العرب في الملائكة، وكذا يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما عنهم: أن المسيح إله، وأنه ابن الإله. ويقال: إن بعضهم يعتقدها بنوة حنو ورحمة، وهذا القول لم يظهر إلا بعد النبوة المحمدية وظهور دلائل صدقها، وبعد أن خالطوا المسلمين وناظروهم، فرجعوا عما كانوا يعتقدونه في عيسى.
وقرأ عاصم، والكسائي عزير منونا على أنه عربي، وباقي السبعة بغير تنوين ممنوع الصرف للعجمة والعلمية، كعاذر وغيذار وعزرائيل، وعلى كلتا القرائتين فابن خبر. وقال أبو عبيد: هو أعجمي خفيف فانصرف كنوح ولوط وهود. قيل: وليس قوله بمستقيم، لأنه على أربعة أحرف وليس بمصغر، إنما هو اسم أعجمي جاء على هيئة المصغر، كسليمان جاء على هيئة عثمان وليس بمصغر. ومن زعم أن التنوين حذف من عزير لالتقاء الساكنين كقراءة: * (قل هو الله أحد * الله الصمد) * وقول الشاعر:
* إذا غطيف السلمى فرا أو لأن ابنا صفة لعزير وقع بين علمين فحذف تنوينه، والخبر محذوف أي: إلاا هنا ومعبودنا. فقوله متمحل، لأن الذي أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوة إلى الله تعالى. ومعنى بأفواههم: أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان، وذلك أن القول الدال على معنى لفظة مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب، وما لا معنى له يقال بالفم لا غير. وقيل: معنى بأفواهم إلزامهم المقالة والتأكيد، كما قال: * (يكتبون الكتاب بأيديهم) * * (ولا طائر يطير بجناحيه) * ولا بد من حذف مضاف في قوله: يضاهون أي يضاهي قولهم والذين كفروا قدماؤهم فهو كفر قديم فيهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات الله، وهو قول الضحاك. أو الضمير عائد على النصارى والذين كفروا اليهود أي: يضاهي قول النصارى في دعواهم بنوة عيسى قول اليهود في دعواهم بنوة عزير، واليهود أقدم من النصارى، وهو قول قتادة. وقرأ عاصم وابن مصرف: يضاهئون بالهمز، وباقي السبعة بغير همز. قاتلهم الله أنى يؤفكون: دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومن قاتله الله فهو المقتول. وقال ابن عباس: معناه لعنهم الله. وقال أبان بن تغلب:
* * قاتلها الله تلحاني وقد علمت * إني لنفسي إفسادي وإصلاحي * وقال قتادة: قتلهم، وذكر ابن الأنباري عاداهم. وقال النقاش: أصل قاتل الدعاء، ثم كثر استعمالهم حتى قالوه على جهة التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء. وأنشد الأصمعي:
* يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني * وأخبر الناس أني لا أباليها * وليس من باب المفاعلة بل من باب طارقت النعل وعاقبت اللص. أنى يؤفكون: كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل على سبيل التعجبا.
2 (* (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلاها واحدا لا إلاه إلا هو سبحانه عما يشركون * يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذيأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) *)) 2 * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم) * تعدت اتخذ هنا المفعولين، والضمير عائد على اليهود والنصارى. قال حذيفة: لم يعبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأحلوه، وحرموا عليهم الحلال فحرموه، وقد جاء هذا مرفوعا في الترمذي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) من حديث عدي بن حاتم. وقيل: كانوا يسجدون لهم كما يسجدون لله، والسجود لا يكون إلا لله، فأطلق عليهم ذلك مجازا. وقيل: علم سبحانه أنهم يعتقدون الحلول، وأنه سبحانه تجلى في بواطنهم فيسجدون له معتقدين أنه لله الذي حل فيهم وتجلى في سرائرهم، فهؤلاء اتخذوهم أربابا حقيقة. ومذهب الحلول فشا في هذه الأمة كثيرا، وقالوا بالاتحاد. وأكثر ما فشا في مشائخ الصوفية والفقراء في وقتنا هذا، وقد رأيت منهم جماعة يزعمون أنهم أكابر. وحكى أبو عبد الله الرازي أنه كان فاشيا في زمانه، حكاه في تفسيره عن بعض المروزيين كان يقول لأصحابه: أنتم عبيدي، وإذا خلا ببعض الحمقا من أتباعه ادعى الآلهية. وإذا كان هذا مشاهدا في هذه الأمة، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السابقة انتهى وهو منقول من كتاب التحرير والتحبير، وقد صنف شيخنا المحدث المتصوف قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني كتابا في هذه الطائفة، فذكر فيهم الحسين بن منصور الحلاج، وأبا عبد الله الشوذي كان بتلمسان، وإبراهيم بن يوسف بن محمد بن دهان عرف بابن المرأة، وأبا عبد الله بن أحلى المتأمر بلورقة، وأبا عبد الله بن العربي الطائي، وعمر بن علي بن الفارض، وعبد الحق بن سبعين، وأبا الحسن الششتري من أصحابه، وابن مطرف الأعمى من أصحاب ابن أحلى، والصفيفير من أصحابه أيضا، والعفيف التلمساني. وذكر في كتابه من أحوالهم وكلامهم وأشعارهم ما يدل على هذا المذهب. وقتل السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ملك الأندلس الصفيفير بغرناطة وأنابها، وقد رأيت العفيف الكوفي وأنشدني من شعره، وكان يتكتم هذا المذهب. وكان بو عبد الله الأيكي شيخ خانكاه سعيد السعداء مخالطا له خلطة كثيرة، وكان متهما بهذا المذهب، وخرج التلمساني من القاهرة هاربا إلى الشام من القتل على الزندقة. وأما ملوك العبيدتين بالمغرب ومصر فإن أتباعهم يعتقدون فيهم الإلهية، وأولهم عبيد الله المتلقب بالمهدي، وأخرهم سليمان المتلقب بالعاضد. والأحبار علماء اليهود، والرهبان عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا وانقطعوا عن الخلق في الصوامع. أخبر عن المجموع، وعاد كل ما يناسبه. أي: اتخذ اليهود أحبارهم، والنصارى رهبانهم. والمسيح ابن مريم عطف على رهبانهم.
(٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 ... » »»