تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٣٠
إن الله بأحوالكم حكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة. وقال ابن عباس: عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم في المشركين.
* (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من) * نزلت حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم) بغزو الروم، وغزا بعد نزولها تبوك. وقيل: نزلت في قريظة والنضير فصالحهم، وكانت أول جزية أصابها المسلمون، وأول ذلك أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين نفي الإيمان بالله عنهم، لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله، آذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به قاله الكرماني. وقال الزجاج: لأنهم جعلوا له ولدا وبدلوا كتابهم، وحرموا ما لم يحرم، وحللوا ما لم يحلل. وقال ابن عطية: لأنهم تركوا شرائع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه، فصار جميع مالهم في البعث وفي الله من تخيلات واعتقادات لا معنى لها، إذ يلقونها من غير طريقها. وأيضا فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة، لأنهم شبهوا وقالوا: عزير ابن الله وثالث ثلاثة، وغير ذلك. ولهم أيضا في البعث آراء كثيرة في منازل الجنة من الرهبان. وقول اليهود في النار يكون فيها أياما انتهى. وفي الغيبان نفي عنهم الإيمان لأنهم مجسمة، والمؤمن لا يجسم انتهى. والمنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني ما حرم الله في كتابه ورسوله في السنة. وقيل: في التوراة والإنجيل، لأنهم أباحوا أشياء حرمتها التوراة والإنجيل، والرسول على هذا موسى وعيسى، وعلى القول الأول محمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: ولا يحرمون الخمر والخنزير. وقيل: ولا يحرمون الكذب على الله، قالوا: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) *، * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * وقيل: ما حرم الله من الربا وأموال الأميين، والظاهر عموم ما حرم الله ورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن. ولا يدينون دين الحق أي: لا يعتقدون دين الإسلام الذي هو دين الحق، وما سواه باطل. وقيل: دين الحق دين الله، والحق هو الله قاله: قتادة. يقال: فلان يدين بكذا أي يتخذه دينا ويعتقده. وقال أبو عبيدة: معناه ولا يطيعون طاعة أهل الإسلام، وكل من كان في سلطان ملك فهو على دينه وقد دان له وخضع. قال زهير:
* لئن حللت بجوفي بني أسد * في دين عمرو وحلت بيننا فدك * * (من الذين أوتوا الكتاب) * بيان لقوله: الذين. والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصا. وأجمع الناس على ذلك. وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم انتهى. وروي أنه كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت، واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب. وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبيحتهم. وقالت فرقة: لا تؤخذ منهم جزية، ولا تؤكل ذبائحهم. وقيل: تؤخذ منهم الجزية، ولا تؤكل ذبائحهم. وقال الأوزاعي: تؤخذ من كل عابد وثن أو نار أو جامد مكذب. وقال أبو حنيفة: لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف، وتقبل من أهل الكتاب ومن سائر كفار العجم الجزية. وقال مالك: تؤخذ من عابد النار والوثن وغير ذلك كائنا من كان من عربي تغلبي أو قرشي أو عجمي إلا المرتد. وقال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور: لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط. والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين. وقال مالك في الواضحة: إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا لم تسقط، وتضرب على رهبان الكنائس. واختلف في الشيخ الفاني، ولم تتعرض الآية لمقدار ما على كل رأس ولا لوقت إعطائها. فأما مقدارها فذهب مالك وكثير من أهل العلم إلى ما فرضه عمر: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون
(٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 ... » »»