تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٩
وغيره: الشرك هو الذي نجسهم، فأعيانهم نجسة كالخمر والكلاب والخنازير. وقال الحسن: من صافح مشركا فليتوضأ. وفي التحرير وبالغ الحسن حتى قال: إن الوضوء يجب من مس المشرك، ولم يأخذ أحد بقول الحسن إلا الهادي من الزيدية. وقال قتادة، ومعمر بن راشد وغيرهما: وصف المشرك بالنجاسة لأنه جنب، إذ غسله من الجنابة ليس بغسل، وعلى هذا القول يجب الغسل على من أسلم من المشركين، وهو مذهب مالك. وقال ابن عبد الحكم: لا يجب، ولا شك أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فجعلوا نجسا مبالغة في وصفهم بالنجاسة.
وقرأ أبو حيوة: نجس بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف، أي: جنس نجس، أو ضرب نجس، وهو اسم فاعل من نجس، فخففوه بعد الاتباع كما قالوا في كبد كبد وكرش كرش. وقرأ ابن السميفع: أنجاس، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل. وفي النهي عن القربان منعهم عن دخوله والطواف به بحج أو عمرة أو غير ذلك كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وهذا النهي من حيث المعنى هو متعلق بالمسلمين، أي لا يتركونهم يقربون المسجد الحرام. والظاهر أن النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام، وهذا مذهب أبي حنيفة. وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد. وقال الزمخشري: إن معنى قوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام) فلا يحجوا ولا يعتمروا، ويدل على قول علي حين نادى ببراءة: لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، قال: ولا يمنعون من دخول الحرم، والمسجد الحرام، وسائر المساجد عند أبي حنيفة انتهى. وقال الشافعي: هي عامة في الكفار، خاصة في المسجد الحرام، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد. وقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد. وقال عطاء: المراد بالمسجد الحرام الحرم، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله. وقيل: المراد من القربان أن يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه، ويعزلوا عن ذلك. وقال جابر بن عبد الله وقتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب حرية، أو عبد المسلم، والمعنى بقوله بعد عامهم هذا: هو عام تسع من الهجرة، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر أميرا على الموسم وأتبع بعلي ونودي فيها ببراءة. وقال قتادة: هو العام العاشر الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، والعيلة الفقر. وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه: عائلة وهو مصدر كالعاقبة، أو نعت لمحذوف أي: حالا عائلة، وإن هنا على بابها من الشرط. وقال عمرو بن قائد: المعنى وإذ خفتم كقولهم: إن كنت ابني فأطعني، أي: إذ كنت. وكون إن بمعنى إذ قول مرغوب عنه. وتقدم سبب نزول هذه الآية وفضله تعالى. قال الضحاك: ما فتح عليهم من أخذ الجزية من أهل الذمة. وقال عكرمة: أغناهم بادرار المطر عليهم، وأسلمت العرب فتمادى حجهم ونحرهم، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم، وعلق الاغناء بالمشيئة لأنه يقع في حق بعض دون بعض وفي وقت دون وقت. وقيل: لإجراء الحكم على الحكمة، فإن اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم أغناكم. وقال القرطبي: إعلاما بأن الرزق لا يأتي بحيلة ولا اجتهاد، وإنما هو فضل الله. ويروي للشافعي:
* لو كان بالحيل الغنى لوجدتني * بنجوم أقطار السماء تعلقي * * لكن من رزق الحجا حرم الغنى * ضدان مفترقان أي تفرق * * ومن الدليل على القضاء وكونه * بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق *
(٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 ... » »»