تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٨٩
بالليل فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر في النهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار. وفي الكلام حذف تقديره: وجاؤوا أباهم دون يوسف عشاء يبكون، فقال: أين يوسف؟ قالوا: إنا ذهبنا. وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال: ما لكم، أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا. قال: فأين يوسف؟ قالوا: إنا ذهبنا نستبق فأكله الذئب، فبكى، وصاح، وخر مغشيا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب، ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفسه ولا تحرك له عرق فقال: ويل لنا من ديان يوم الدين الذي ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا، فلم يفق لا ببرد السحر. قال الأعمش: لا يصدق باك بعد أخوة يوسف. ونستبق. أي: نترامى بالسهام، أو نتجارى على الأقدام أينا أشد عدوا، أو نستبق في أعمال نتوزعها من سقي ورعي واحتطاب، أو نتصيد. أربعة أقوال. عند متاعنا أي: عند ثيابنا، وما تجردنا له حالة الاستباق، وهذا أيضا يدل على صغر يوسف، إذ لو كان ابن ثمان عشرة سنة أو سبع عشرة لكان يستبق معهم، فأكله الذئب قد ذكرنا أنهم تلقنوا هذا الجواب من قول أبيهم، وأخاف أن يأكله الذئب، لأن أكل الذئب إياه كان أغلب ما كان خاف عليه. وما أنت بمؤمن لنا أي: بمصدق لنا الآن ولو كنا صادقين. أو لست مصدقا لنا على كل حال حتى في حالة الصدق، لما غلب عليك من تهمتنا وكراهتنا في يوسف، وإنا نرتاد له الغوائل، ونكيد له المكائد، وأوهموا بقولهم: ولو كنا صادقين أنهم صادقون في أكل الذئب يوسف، فيكون صدقهم مقيدا بهذه النازلة. أو من أهل الصدق والثقة عند يعقوب قبل هذه النازلة، لشدة محبتك ليوسف، فكيف وأنت سيىء الظن بنا في هذه النازلة، غير واثق بقولنا فيه؟.
روي أنهم أخذوا سخلة أو جديا فذبحوه، ولطخوا قميص يوسف بدمه، وقالوا: ليعقوب هذا قميص يوسف فأخذه، ولطخ به وجهه وبكى، ثم تأمله فلم ير خرقا ولا ارتاب، فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا وقال لهم: متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟ قيل: كان في قميص يوسف ثلاث آيات، كان دليلا ليعقوب على أن يوسف لم يأكله الذئب، وألقاه عل وجهه فارتد بصيرا، ودليلا على براءة يوسف حين قد من دبر. قال الزمخشري: (فإن قلت): على قميصه ما محله؟ (قلت): محله النصب على الظرف، كأنه قيل: وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول: جاء على جماله بأحمال. (فإن قلت): هل يجوز أن يكون حالا مقدمة؟ (قلت): لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه انتهى. ولا يساعد المعنى على نصب على على الظرف بمعنى فوق، لأن العامل فيه إذ ذاك جاؤوا، وليس الفوق ظرفا لهم، بل يستحيل أن يكون ظرفا لهم. وقال الحوفي: على متعلق بجاؤوا، ولا يصح أيضا. وأما المثال الذي ذكره الزمخشري وهو جاء على جماله بأحمال فيمكن أن يكون ظرفا للجائي، لأنه تمكن الظرفية فيه باعتبار تبدله من جمل على جمل، ويكون بأحمال في موضع الحال أي: مصحوبا بأحمال. وقال أبو البقاء: على قميصه في موضع نصب حالا من الدم، لأن التقدير: جاؤوا بدم كذب على قميصه انتهى. وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف، ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب، وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو، والمعنى: يرشد إلى ما قاله أبو البقاء.
وقرأ الجمهور: كذب وصف لدم على سبيل المبالغة، أو على حذف مضاف أي: ذي كذب، لما كان دالا على الكذب وصف به، وإن كان الكذب صادرا من غيره. وقرأ زيد بن علي: كذبا بالنصب، فاحتمل أن يكون مصدرا في موضع الحال، وأن يكون مفعولا من أجله. وقرأت عائشة، والحسن: كدب بالدال غير معجمة، وفسر بالكدر، وقيل: الطري، وقيل: اليابس، وقال صاحب اللوامح: ومعناه ذي كذب أي: أثر لأن الكذب هو بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها، كالنقش، ويسمى ذلك البياض الفوف، فيكون هذا استعارة لتأثيره
(٢٨٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 284 285 286 287 288 289 290 291 292 293 294 ... » »»