تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٦١
إهلاك من تقدم من الأمم. وقرأ طلحة بن مصرف: وكذلك أحذ ربك هذا أخذ. قال ابن عطية: وهي قراءة متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعة تعطي الوعيد واستمراره في الزمان، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي، والقرى مفعول بأخذ على الإعمال إذ تنازعه المصدر وهو: أخذ ربك، وأخذ، فاعمل الثاني وهي ظالمة جملة حالية إن أخذه أليم موجع صعب على المأخوذ. والأخذ هنا أخذ الإهلاك.
إن في ذلك أي: فيما قص الله من أخبار الأمم الماضية وإهلاكهم لآية لعلامة لمن خاف عذاب الآخرة، أي: إنهم إذا عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياء وإشراكهم بالله، وهي دار العمل فلأن يعذبوا على ذلك في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى، وذلك أن الأنبياء أخبروا باستئصال من كذبهم، وأشركوا بالله. ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم، فدل على أن ما أخبروا به من البعث والجزاء صدق لا شك فيه. قال الزمخشري: لآية لمن خاف لعبرة له، لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا، وما هو إلا أنموذج مما أعد لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمته وشدته اعتبر به من عظيم العذاب الموعود فيكون له عظة وعبرة ولطفا في زيادة التقوى والخشية من الله ونحوه: * (إن فى ذلك لعبرة لمن يخشى) * ذلك إشارة إلى يوم القيامة الدال عليه قوله: عذاب الآخرة، والناس مفعول لم يسم فاعله رافعه مموع، وأجاز ابن عطية أن يكون الناس مبتدأ، ومجموع خبر مقدم، وهو بعيد لإفراد الضمير في مجموع، وقياسه على إعرابه مجموعون، ومجموع له الناس عبارة عن الحشر، ومشهود عام يشهده الأولون والآخرون من الإنس والجن والملائكة والحيوان في قول الجمهور.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): أي فائدة في أن أوثر اسم المفعول على فعله؟ (قلت): لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنه لا بد أن يكون ميعاد مضروبا لجمع الناس له، وأنه هو الموصوف بذلك صفة لازمة، وهو أثبت أيضا لإسناد الجمع إلى الناس وأنهم لا ينفكون منه، وفيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل. ومعنى مشهود، مشهود فيه، فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به على السعة لقوله:
ويوما شهدناه سليما وعامرا والمعنى: يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد، ومنه قولهم لفلان: مجلس مشهود، وطعام محضور. وإنما لم يجعل اليوم مشهودا في نفسه كما قال: * (فمن شهد منكم الشهر) * لأن الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وغيره من بين الأيام، وكونه مشهودا في نفسه لا يميزه، إذ هو موافق لسائر الأيام في كونها مشهودة. وما نؤخره أي: ذلك اليوم. وقيل: يعود على الجزاء قاله الحوفي، إلا لأجل معدود أي لقضاء سابق قد نفذ فيه بأجل محدود لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه. وقرأ الأعمش: وما يؤخره بالياء، وقرأ النحويان ونافع: يأتي بإثبات الياء وصلا، وحذفها وقفا، وابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا، وهي ثابتة في مصحف أبي. وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلا ووقفا، وسقطت في مصحف الإمام عثمان. وقرأ الأعمش يأتون، وكذا في مصحف عبد الله، وإثباتها وصلا ووقفا هو الوجه، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل، وقفا ووصلا التخفيف كما قالوا: لا أدر ولا أبال. وذكر الزمخشري أن الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل. وأنشد الطبري:
(٢٦١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 256 257 258 259 260 261 262 263 264 265 266 ... » »»