تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٥٨
وقيل: معناه بعدا لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها. وقال ابن قتيبة: بعد يبعد إذا كان بعده هلكة، وبعد يبعد إذ أتاني. وقال النحاس: المعروف في اللغة بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك. وقال المهدوي: بعد يستعمل في الخير والشر، وبعد في الشر خاصة. وقال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب، فيقول فيهما بعد يبعد، وبعد يبعد. وقال مالك بن الريب: في بعد بمعنى هلك؛ * يقولون لا تبعدوهم يدفنونني * وأين مكان البعد إلا مكانيا * وبعد الفلان دعاء عليه، ولا يدعى به إلا على مبغض كقولك: سحقا للكافرين. وقال أهل علم البيان: لم يرد في القرآن استطراد إلا هذا الموضع، والاستطراد قالوا: هو أن تمدح شيئا أو تذمه، ثم تأتي في آخر الكلام بشيء هو غرضك في أوله. قال حسان:
* إن كنت كاذبة الذي حدثتني * فنجوت منجى الحرث بن هشام * * ترك الأحبة أن يقاتل دونهم * ونجا برأس طمرة ولجام * * (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون * وملإيه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا فى هاذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) *: الآيات المعجزات التسع: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ومنهم من أبدل النقص بإظلال الجبل. وقيل: الآيات التوراة، وهذا ليس بسديد، لأنه قال إلى فرعون وملائه، والتوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وملائه. والسلطان المبين هو الحجج الواضحة، ويحتمل أن يريد بقوله: وسلطان مبين فيها أي في الآيات، وهي دالة على صدق موسى عليه السلام. ويحتمل أن يريد بها العصا لأنها أبهر تلك الآيات، فنص عليها كما نص على جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة على سبيل التشريف بالذكر. والظاهر أن يراد بقوله: أمر فرعون أمره إياهم بالكفر وجحد معجزات موسى، ويحتمل أن يريد الطريق والشان. وما أمر فرعون برشيد: نفى عنه الرشد، وذلك تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره، وهو ضل مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل. وذلك أنه ادعى الإلهية وهو بشر مثلهم. عاينوا الآيات والسلطان المبين في أمر موسى عليه السلام، وعلموا أن معه الرشد والحق، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في اتباعه رشد. ويحتمل أن يكون رشيد بمعنى راشد، ويكون رشيد بمعنى مرشد أي بمرشد إلى خير. وكان فرعون دهريا نافيا للصانع والمعاد، وكان يقول: لا إله للعالم، وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم، فلذلك كان أمره خاليا عن الرشد بالكلية. والرشد يستعمل في كل ما يحمد ويرتضى، والغي ضده. ويقال: قدم زيد القوم يقدم قدما، وقدوما تقدمهم والمعنى: أنه يقدم قومه المغزقين إلى النار، وكما كان قدوة في الضلال متبعا كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه، ويحتمل أن يكون قوله: برشيد بحميد، العاقبة، ويكون قوله: يقدم قومه، تفسيرا لذلك وإيضاحا أي: كيف يرشد أمر من هذه عاقبته؟ وعدل عن قبوردهم إلى فأوردهم لتحقق وقوعه لا محالة، فكأنه قد وقع، ولما في ذلك من الإرهاب والتخويف. أو هو ماض حقيقة أي: فأوردهم في الدنيا النار أي: موجبه وهو الكفر. ويبعد هذا التأويل الفاء والورود في هذه الآية. ورود الخلود وليس بورود الإشراف على الشيء والإشفاء كقوله: * (ولما ورد ماء مدين) * ويحتمل أن تكون النار تصيبه على إعمال الثاني لأنه تنازعه يقدم
(٢٥٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 253 254 255 256 257 258 259 260 261 262 263 ... » »»