تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٥٥
قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولي عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فتقول: خالفني إلى الماء، تريد أنه قد ذهب إليه واردا، وأنا ذاهب عنه صادرا. والمعنى أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لاستبد بها دونكم، فعلى هذا الظاهر أن قوله: أن أخالفكم في موضع المفعول لا ريد، أي وما أريد مخالفتكم، ويكون خالف بمعنى خلف نحو: جاوز وجاز أي: وما أريد أن أخلفكم أي: أكون خلفا منكم. وتتعلق إلى باخالفكم، أو بمحذوف أي: مائلا إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال بعضهم: فيه حذف يقتضيه إلى تقديره: وأميل إلى، أو يبقى أن أخالفكم على ظاهر ما يفهم من المخالفة، ويكون في موضع المفعول به بأريد، وتقدر: مائلا إلى، أو يكون أن أخالفكم مفعولا من أجله، وتتعلق إلى بقوله وما أريد بمعنى، وما أقصد أي: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال الزجاج: وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه. والظاهر أن ما مصدرية ظرفية أي مدة استطاعتي للإصلاح، وما دمت متمكنا منه لا آلوا فيه جهدا. وأجاز الزمخشري في ما وجوها أحدها: أن يكون بدلا من الإصلاح أي: المقدر الذي استطعته، أو على حذف مضاف تقديره: إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، فهذان وجهان في البدل. والثالث: أن يكون مفعولا كقوله:
ضعيف النكاتة أعداءه. أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم، وهذا الثالث ضعيف، لأن المصدر المعرف بأل لا يجوز إعماله في المفعول به عند الكوفيين، وأما البصريون فإعماله عندهم فيه قليل.
وما توفيقي أي لدعائكم إلى عبادة الله وحده، وترك ما نهاكم عنه إلا بموعونة الله. أو وما توفيقي لأن تكون أفعالي مسددة موافقة لرضا الله لا بمعونته، عليه توكلت لا على غيره، وإليه أنيب أرجع في جميع أقوالي وأفعالي. وفي هذا طلب التأييد من الله تعالى، وتهديد للكفار وحسم لأطماعهم أن ينالوه بشر. ومعنى لا يجرمنكم: لا يكسبنكم شقاقي، أي خلافي وعداوتي. قال السدي: كأنه في شق وهم في شق. وقال الحسن: ضراري جعله من المشقة. وقيل: فراقي. وقرأ ابن وثاب والأعمش: بضم الياء من أجرم، ونسبها الزمخشري إلى ابن كثير، وجرم في التعدية مثل كسب يتعدى إلى واحد. جرم فلان الذنب، وكسب زيد المال، ويتعدى إلى اثنين جرمت زيدا الذنب، وكسبت زيدا المال. وبالألف يتعدى إلى اثنين أيضا، أجرم زيد عمرا الذنب، وأكسبت زيدا المال، وتقدم الكلام في جرم في العقود. وقرأ مجاهد، والجحدري، وابن أبي إسحاق، ورويت عن نافع: مثل بفتح اللام، وخرج على وجهين: أحدهما: أن تكون الفتحة فتحة بناء، وهو فاعل كحاله حين كان مرفوعا، ولما أضيف إلى غير متمكن جاز فيه البناء، كقراءة من قرأ أنه لحق مثل ما أنكم تنطقون. والثاني: أن تكون الفتحة فتحة إعراب، وانتصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي: إصابة مثل إصابة قوم نوح. والفاعل مضمر يفسره سياق الكلام أي: إن يصيبكم هو أي العذاب. وما قوم لوط منكم ببعيد، إما في الزمان لقرب عهد هلاكهم من عهدكم، إذ هم أقرب الهالكين، وإما في الكفر والمعاصي وما يستحق به الهلاك. وأجرى بعيدا على قوم إما باعتبار الزمان أو المكان، أي: بزمان بعيد، أو بمكان بعيد. أو باعتبار موصوف غيرهما أي: بشيء بعيد، أو باعتبار مضاف إلى قوم أي: وما إهلاك قوم لوط. ويجوز أن يسوي في قريب وبعيد وكثير وقليل بين المفرد والجمع، وبين المذكر والمؤنث، كما قالوا: هو صديق، وهم صديق، وهي صديق، وهن صديق. وودود بناء مبالغة من ود الشيء أحبه وآثره، وهو على فعل. وسمع الكسائي: وددت بفتح العين، والمصدر ودود بناء مبالغة ود الشيء أحبه وآثره، وهو على فعل. وسمع الكسائي. وددت بفتح العين، والمصدر ود وداد وودادة. وقال بعض أهل اللغة: يجوز أن يكون ودود فعول بمعنى مفعول. وقال المفسرون: ودود متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم. وقيل: محبوب المؤمنين ورحمته لعباده، ومحبته لخم سبب في استغفارهم وتوبتهم، ولولا ذلك ما وفقهم إلى استغفاره والرجوع إليه، فهو يفعل بهم فعل الواد بمن يوده من الإحسان إليه.
(٢٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 250 251 252 253 254 255 256 257 258 259 260 ... » »»