تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٤٢
إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة أي طعمه طعم مدامة.
وقرأ الإخوان قال: سلم، والسلم السلام كحرم وحرام، ومنه قول الشاعر:
* مررنا فقلنا ايه سلم فسلمت * كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح * اكتل اتخذ إكليلا. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالسلم ضد الحرب تقول: نحن سلم لكم انتهى. ونصب سلاما يدل على التجدد، ورفع سلام يدل على الثبوت والاستقرار، والأقرب في إعراب فما لبث أن تكون ما نافية، ولبث معناه تأخر وأبطأ، وأن جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه قاله: الفراء. وجوزوا أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل، وأن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن، وبفي، وجعل بعضهم أن بمعنى حتى حكاه ابن العربي. وأن تكون ما مصدرية، وذلك المصدر في موضع رفع بالابتداء، وأن تكون بمعنى الذي أي: فلبثه، أو الذي لبثه، أو الذي لبثه، والخبر أن جاء على حذف أي: قدر مجيئه، وهذا من أدب الضيافة، وهو تعجيل القرى. وكان مال إبراهيم البقر، فقدم أحسن ما فيه وهو العجل. قال مجاهد: حنيذ مطبوخ، وقال الحسن: نضج مشوي سمين يقطر ودكا. وقال السدي: سمين، وقيل: سميط لا يصل إليه، أي إلى العجل. والمعنى: لا يمدون أيديهم إلى أكله، فلم ينف الوصول الناشئ عن المدبل، جعل عدم الوصول استعارة عن امتناعهم من الأكل. نكرهم أي أنكرهم قال الشاعر:
* وأنكرتني وما كان الذي نكرت * من الحوادث إلا الشيب والصلعا. وقيل: نكر فيما يرى، وأنكر فيما لا يرى من المعاني، فكأن الشاعر قال: وأنكرت مودتي ثم جاءت بنكر الشيب والصلع مما يرى بالبصر. ومنه قول أبي ذؤيب:
* فنكرنه فنفرن وامترست به هو جاء هادية وهاد جرشع * وروي أنهم كانوا ينكثون بقداح كانت بأيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه، وينبغي أن ينظر من الضيف هل يأكل أولا ويكون بتلفت ومسارعة، لا بتحديد النظر، لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصرا في الأكل. قيل: كان إبراهيم عليه السلام ينزل في طرف من الأرض مخافة أن يريدوا به مكروها. وقيل: كانت عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوا وإلا خافوه. قال الزمخشري: ويظهر أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم، لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه، أو لتعذيب قومه. ألا ترى إلى قولهم: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيما أرسلوا. قال مقاتل: فأوجس وقع في قلبه. وقال الحسن: حدث به نفسه، قيل: وأصل الوجوس الدخول، فكان الخوف دخل عليه. والظاهر أنه لم يعرف أنهم ملائكة لمجيئهم في صورة البشر، وكان مشغوفا بإكرام الأضياف، فلذلك جاؤوا في صورهم، ولمسارعته إلى إحضار الطعام إليهم، ولأن امتناع الملائكة من الأكل لا يدل على حصول الشر، وإنما عرف أنهم ملائكة بقولهم: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، فنهوه عن شيء وقع في نفسه، وعرفوا خيفته بكون الله جعل لهم من الاطلاع ما لم يجعل لغيرهم كقوله تعالى: * (يعلمون ما تفعلون) * وفي الحديث
(٢٤٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 237 238 239 240 241 242 243 244 245 246 247 ... » »»