تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٣١
* (قيل يانوح * نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم * تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هاذا فاصبر إن العاقبة للمتقين) *: بني الفعل للمفعول، فقيل: القائل هو الله تعالى، وقيل: الملائكة تبليغا عن الله تعالى. والظاهر الأول لقوله: منا. وسنمتعهم أمر عند نزوله بالهبوط من السفينة ومن الجبل مع أصحابه للانتشار في الأرض، والباء للحال أي: مصحوبا بسلامة وأمن وبركات، وهي الخيرات النامية في كل الجهات. ويجوز أن تكون اللام بمعنى التسليم أي: اهبط مسلما عليك مكرما. وقرئ اهبط بضم الباء، وحكى عبد العزيز بن يحيى وبركة على التوحيد عن الكسائي وبشر بالسلامة إيذانا له بمغفرة ربه له ورحمته إياه، وبإقامته في الأرض آمنا من الآفات الدنيوية، إذ كانت الأرض قد خلت مما ينتفع به من النبات والحيوان، فكان ذلك تبشيرا له بعود الأرض إلى أحسن حالها، ولذلك قال: وبركات عليك أي دائمة باقية عليك. والظاهر أن من لابتداء الغاية أي: ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر. قال الزمخشري: ويحتمل أن تكون من للبيان فتراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات. وقيل لهم: أمم، لأن الأمم تشعبت منهم انتهى. وهذا فيه بعد تكلف، إذ يصير التقدير: وعلى أمم هم من معك، ولو أريد هذا المعنى لا غنى عنه، وعلى أمم معك أو على من معك، فكان يكون أخضر وأقرب إلى الفهم، وأبعد عن اللبس. وارتفع أمم على الابتداء. قال الزمخشري: وسنمتعهم صفة، والخبر محذوف تقديره وممن معك أمم سنمتعهم، وإنما حذف لأن قوله: ممن معك، والمعنى: أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك، وأمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار انتهى. ويجوز أن يكون أمم مبتدأ، ومحذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة، والتقدير: وأمم منهم أي ممن معك، أي ناشئة ممن معك، وسنمتعهم هو الخبر كما قالوا: السمن منوان بدرهم، أي منوان منه، فحذف منه وهو صفة لمنوان، ولذلك جاز الابتداء بمنوان وهو نكرة. ويجوز أن يقدر مبتدأ ولا يقدر صفة الخبر سنمتعهم، ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل، فكان مثل قول الشاعر:
* إذا ما بكى من خلفها انحرفت له * بشق وشق عندنا لم يحول * وقال القرطبي: ارتفعت وأمم على معنى: ويكون أمم انتهى. فإن كان أراد تفسير معنى فحسن، وإن أراد الإعراب ليس بجيد، لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون، وقال الأخفش: هذا كما تقول كلمت: زيدا وعمر وجالس انتهى. فاحتمل أن يكون من باب عطف الجمل، واحتمل أن تكون الواو للحال، وتكون حالا مقدرة لأنه وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة. وقال أبو البقاء: وأمم معطوف على الضمير في اهبط تقديره: اهبط أنت وأمم، وكان الفصل بينهما مغنيا عن التأكيد، وسنمتعهم نعت لأمم انتهى. وهذا التقدير والمعنى لا يصلحان، لأن الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله: ومن آمن، ولم يكونوا قسمين كفارا ومؤمنين، فتكون الكفار مأمورين بالهبوط مع نوح، إلا إن قدر أن من أولئك المؤمنين من يكفر بعد الهبوط، وأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها فيمكن على بعد، والذي ينبغي أن يفهم من الآية أن من معه ينشأ منهم مؤمنون وكافرون، ونبه على الإيمان بأن المتصفين به من الله عليهم سلام وبركة، وعلى الكفر بأن المتصفين به يمتعون في الدنيا ثم يعذبون في الآخرة، وذلك من باب الكناية كقولهم: فلان طويل
(٢٣١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 226 227 228 229 230 231 232 233 234 235 236 ... » »»