تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٣٢
النجاد كثير الرماد. وظاهر قوله: ممن معك يدل على أن المؤمنين والكافرين نشأوا ممن معه، والذين كانوا معه في السفينة إن كانوا أولاده الثلاثة فقط، أو معهم نساؤهم، انتظم قول المفسرين أن نوحا عليه السلام هو أبو الخلق كلهم، وسمي آدم الأصغر لذلك وإن كانوا أولاده وغيرهم على الاختلاف في العدد، فإن كان غير أولاده مات ولم ينسل صح أنه أبو البشر بعد آدم، ولم يصح أنه نشأ ممن معه مؤمن وكافر، إلا إن أريد بالذين معه أولاده، فيكون من إطلاق العام ويراد به الخاص. وإن كانوا نسلوا كما عليه أكثر المفسرين فلا ينتظم أنه أبو البشر بعد آدم بل الخلق بعد الطوفان منه، وممن كان معه في السفينة والأمم الممتعة ليسوا معينين، بل هم عبارة عن الكفار. وقيل: هم قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب، عليهم الصلاة والسلام.
تلك إشارة إلى قصة نوح، وتقدمت أعاريب في مثل هذا التركيب في قوله: * (ذالك من أنباء الغيب نوحيه إليك) * في آل عمران، وتلك إشارة للبعيد، لأن بين هذه القصة والرسول مددا لا تحصى. وقيل: الإشارة بتلك إلى آيات القرآن، ومن أنباء الغيب وهو الذي تقادم عهده ولم يبق علمه إلا عند الله، ونوحيها إليك ليكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء، ولم يكن علمها عندك ولا عند قومك، وأعلمناهم بها ليكون مثالا لهم وتحذيرا أن يصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك، وللحظ هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله: فاصبر على أذاهم مجتهدا في التبليغ عن الله، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذا القصة. ومعنى ما كنت تعلمها: أي مفصلة كما سردناها عليك، وعلم الطوفان كان معلوما عند العالم على سبيل الإجمال، والمجوس الآن ينكرونه. والجملة من قوله: ما كنت في موضع الحال من مفعول نوحيها، أو من مجرور إليك، وقدرها الزمخشري تقدير معنى فقال: أي مجهولة عندك وعند قومك ويحتمل أن يكون خبرا بعد خبر، والإشارة بقوله: من قبل هذا إلى الوقت أو إلى الإيحاء أو إلى العلم الذي اكتسبه بالوحي احتمالات، وفي مصحف ابن مسعود من قبل هذا القرآن. وقال الزمخشري: ولا قومك معناه: أن قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم، ولا سمعوه ولا عرفوه، فكيف برجل منهم كما تقول: لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده؟.
* (وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم * قوم * اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إن أنتم إلا مفترون * إلا مفترون * ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذى فطرنى أفلا تعقلون * وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين) *: وإلى عاد أخاهم معطوف على قوله: أرسلنا نوحا إلى قومه، عطف الواو على المجرور، والمنصوب على المنصوب، كما يعطف المرفوع والمنصوب على المرفوع والمنصوب نحو: ضرب زيد عمرا، وبكر خالدا، وليس من باب الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف والمعطوف نحو: ضربت زيدا، وفي البيت عمرا، فيجيء منه الخلاف الذي بين النحويين: هل يجوز في الكلام، أو يختص بالشعر؟ وتقدير الكلام في هود وعاد وأخوته منهم في الأعراف، وقراءة الكسائي غيره بالخفض، وقيل: ثم فعل محذوف أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم، فيكون إذ ذاك من عطف الجمل، والأول من عطف المفردات، وهذا أقرب لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المتعاطفين. وهودا بدل أو عطف بيان. وقرأ محيصن: يا قوم بضم الميم كقراءة حفص: قل رب احكم بالحق بالضم، وهي لغة في المنادي المضاف حكاها سيبويه وغيره، وافتراؤهم قال الحسن: في جعلهم الألوهية لغير الله تعالى. وقال الزمخشري: باتخاذكم الأوثان له شركاء. والضمير في عليه عائد على الدعاء إلى الله، ونبه بقوله: الذي فطرني، على الرد عليهم في عبادتهم الأصنام، واعتقادهم أنها تفعل، وكونه تعالى هو الفاطر للموجودات يستحق إفراده بالعبادة. وأفلا تعقلون توقيف على استحالة الألوهية لغير الفاطر، ويحتمل أن يكون أفلا تعقلون راجعا إلى أنه إذا لم أطلب عرضا منكم، وإنما أريد نفعكم فيجب انقيادكم لما فيه نجاتكم، كأنه قيل: أفلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من الله تعالى، وهو ثواب الآخرة، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك. وتقدم الكلام في * (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) * أول هذه السورة قصد هود استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوة، لأنهم كانوا أصحاب زورع وبساتين
(٢٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 227 228 229 230 231 232 233 234 235 236 237 ... » »»