تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٥ - الصفحة ٢٣٠
أهله نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستنفي معها لفظ المنفي وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم، لا لأنهم أهلك وأقاربك، وإن هذا لما انتفي عنه الصلاح لم تنفعه أبوتك. وقرأ الصاحبان: تسألن بتشديد النون مكسورة، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي كذلك، إلا أنهم أثبتوا الباء بعد النون، وابن كثر بتشديدها مفتوحة وهي قراءة ابن عباس. وقرأ الحسن وابن أبي مليكة: تسألني من غير همز، من سال يسال، وهما يتساولان، وهي لغة سائرة. وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها، وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو، وحذفها الباقون. قال الزمخشري: فلا تلتمس ملتمسا أو التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب حتى تقف على كنهه، وذكر المسألة دليل على أن النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه. (فإن قلت): لم سمي نداءه سؤالا ولا سؤال فيه؟ (قلت): قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة الغرق فقد استنجز، وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين. (فإن قلت) قد وعد الله أن ينجي أهله، وما كان عنده أن ابنه ليس منهم دينا، فلما أشفي على الغرق تشابه عليه الأمر، لأن العدة قد سبقت له، وقد عرف الله حكيما لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد، فطلب إماطة الشبهة وطلب إماطة الشبهة واجب، فلم زجر وجعل سؤاله جهلا؟ (قلت): أن في جملة أهله من هو مستوجب العذاب لكونه غير صالح، وأن كلهم ليسوا بناجين، وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب بما يجب أن لا يشتبه. وقال ابن عطية: معنى قوله: فلا تسألن ما ليس لك به علم، أي إذ وعدتك فاعلم يقينا أنه لا خلف في الوعد، فإذا رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أن ذلك لحق واجب عند الله، ولكن نوحا عليه السلام حملته شفقة البنوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير، وعلى هذا القدر وقع عقابه، ولذلك جاء بتلطف وترج في قوله: إني أعظك أن تكون من الجاهلين. ويحتمل قوله: فلا تسألن ما ليس لك به علم، أي: لا تطلب مني أمرا لا تعلم المصلحة فيه علم يقين، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي وقال: إن به يجوز أن يتعلق بلفظ عام كما قال الشاعر:
كأن جزائي بالعصا أن أجلدا ويجوز أن يكون به بمنزلة فيه، فتتعلق الباء بالمستقر. واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي، والمعنى في الآية واحدة. وذكر الطبري عن ابن زيد تأويلا في قوله: إني أعظك أن تكون من الجاهلين لا يناسب النبوة تركناه، ويوقف عليه في تفسير ابن عطية. وقيل: سأل نوح ربه حين صار عنه ابنه بمعزل، وقيل: قبل أن عرف هلاكه، وقيل: بعد أن عرف هلاكه سأل الله له المغفرة أن أسألك من أن أطلب في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديبا بأدبك، واتعاظا بموعظتك، وهذه إنابة من نوح عليه السلام وتسليم لأمر الله. قال ابن عطية: والسؤال الذي وقع النهي عنه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة، وطلبه ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه. وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا، وظاهر قوله: فلا تسألن ما ليس لك به علم، يعم النحوين من السؤال، ولذلك نبهت على أن المراد أحدهما دون الآخر، والخاسرون هم المغبونون حظوظهم من الخير انتهى، ونسب نوح النقص والذنب إلى نفسه تأدبا مع ربه فقال: وألا تغفر لي، أي ما فرط من سؤالي وترحمني بفضلك، وهذا كما قال آدم عليه السلام.
(٢٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 225 226 227 228 229 230 231 232 233 234 235 ... » »»